هو اليوم المنتظر لأنهي إمتحانات الفصل الأخير لعامي الدراسي الثالث في قسم العلوم السياسية. أذكر أني كنت بمفردي، وما إن وطأت قدماي أوتوستراد زحلة حتى فوجئت بسيارة تُقاد بسرعة جنونية، ومن بعدها لم أجد نفسي سوى مرمية على الجانب الآخر من الطريق.
خضعت لعملية جراحية في ذراعي الأيمن في اليوم نفسه، لازمت الفراش لمدة ثلاث أشهر كاملةً، كنت مؤمنة بأن يدي ستتعافى ولكن خُيّبت الآمال وبدأت رحلة العلاج، ثلاث عمليات جراحية وعلاجات فيزيائية وغيرها، ويدي لليوم لم تعد كالسابق.
اللحظة الأصعب، مرحلة الخروج من المنزل برفقة الآلة الحديدية الغريبة الشكل التي وضعت بيدي، إعتدت العزلة في تلك المرحلة ولكن الحياة تستمر وتجبرنا على الإستمرار.
هذا ما أخبرتني به الناجية منال المصري، التي تعرضت لحادث اصطدام أمام مبنى كلية الحقوق عام ٢٠٠٣.
مأساة منال لم تكن الأولى ولا الأخيرة على طريق الموت هذا، الطريق الذي يفتقد إلى أدنى شروط السلامة المرورية، وجد من طلاب الجامعة اللبنانية بكلياتها الأربعة المتواجدة في زحلة النصيب الأكبر من الضحايا حيث طُرح عدد الضحايا من الطلاب ٢٤ ضحية على الأقل. لتكون الضحية الأخيرة الطالبة إسراء أيوب التي فارقت الحياة في يومها الأول في مسيرتها الجامعية حيث وجدت إبنة السبعة عشر عامًا تلفظ أنفاسها الأخيرة متمسكةً بمستندات تسجيلها كطالبة في كلية الآداب، قسم التاريخ.
أحلام إسراء الضائعة، جاءت كمحفز لطرح الملف من جديد. حيث أيقظت هذه الواقعة الأليمة مشاعر الخوف والقلق والغضب الطلابي في لبنان ككل وفي البقاع خاصة.
ومع هذه المأساة، دعى الدكتور علي حسن، الأستاذ المحاضر في كلية الآداب، طلابه للإعتصام في العاشر من كانون الثاني ٢٠٢٠ لوقفة استنكارية، وكان شعار الطلاب الأوحد يومها "كلنا إسراء أيوب".
يؤكد الدكتور علي حسن أن التحركات الطلابية والإصرار على توفير أدنى شروط الحماية من قبل المعنيين، ضرورة مُحقة ولا بد أن تُحدث فارق كبير ولو بعد حين. حيث لامس بنفسه ما نتج من تضامن مع التحركات السابقة التي يصفها بالخجولة بعض الشيء. "التحركات الطلابية لاقت صدى لدى "الجمعية اللبنانية للتعايش والإنماء" وقدمت الجمعية دراسة هندسية لبناء جسر مشاة في ذلك الوقت". ويؤكد أن الدراسة ما زالت موجودة لليوم. كما ويذكر شاكرًا "شركة الموسوي لمواد البناء" على تبرعها بتغطية تكاليف بناء الجسر كاملةً، إلا أنه وقبل الشروع ببناء الجسر لم يتم الإتفاق بين الموسوي والجهات الرسمية المعنية على تحديد للموقع الجغرافي للجسر، ولأسباب "مجهولة" كما اعتبرها الأستاذ علي أقفل الملف من جديد.
ويختم الحديث بعبارة واحدة، "كنا نتمنى لمرة واحدة أن نقوم بالفعل قبل ردة الفعل".
في ما يلي، شهادات لطلاب في سنواتهم الجامعية الأولى، يحدثونا عن ما يعيشوه يوميًا من شعور ممزوح بالخوف والقلق لحظة إجتيازهم الطريق السريع أمام كلياتهم.
آية سلوم، كلية الحقوق، سنة ثانية.
"إذا ما حدا قطعني الطريق ما بقطع لحالي ".
آية طالبة حقوق في الفرع الرابع، زحلة. الشابة العشرينية وبعد سنتين من إجتيازها بشكل يومي للطريق السريع أمام مبنى كليتها، ما زال ينتابها الخوف والقلق في كل مرة. وخاصةً كونها لم تعتد من قبل على اجتياز الطريق بمفردها. تتعمد آية يوميًا إنتظار زملائها لإجتيازه سويًا كونها تعتبر وجودهم معها يشعرها بالأمان أكثر. وتقول " يمكن إذا ما حدا قطعني الطريق ما اقطع لحالي ويروح عليي محاضرة أو إمتحان، حياتي وسلامتي أولوية وأهم من أي شي ".
وفي السؤال عن عدد المرات التي يجتازها الطلاب لهذا الطريق يوميًا، توضح آية أن لا وجود لمكتبة في حرم الكلية، وبذلك يعمد الطلاب إلى زيارة ما يُعرف ب " مكتبة الجامعة " بهدف تصوير المستندات الجامعية اللازمة، حالهم كحال أي طالب في الكليات الثلاث الأخرى. هذه المكتبة متواجدة في منطقة كسارة على الطريق المواجه للأوتوستراد، مما يعني أن كل طالب يجتاز كحد أدنى الطريق أربع مرات يوميًا، ويعرض بذلك حياته وصحته الجسدية والنفسية للخطر.
تؤكد طالبة الحقوق العشرينية، حُبها وإنتمائها للجامعة اللبنانية ولكنها استسلمت أمام هذا الواقع وتستبعد توفر أي حل ملموس لهذه المسألة في الفترة القادمة، " لو عنا القدرة نحنا طلاب اللبنانية نسجل بجامعات خاصة أو ننزل على بيروت ما منقول لا " تقولها آية وكأنها تتحدث بلسان غالبية طلاب الجامعة اللبنانية، خاصًة أن هؤلاء لا تتوفر لديهم أدنى الإمكانيات للإلتحاق بالجامعات الخاصة ذات التكاليف الباهظة، وفي ظل ما تعاني منه البلاد من أزمة إقتصادية خانقة، بات من المستحيل على الطلاب وعائلاتهم تحمل أعباء بدل النقل والسكن الجامعي وغيرها من المستلزمات الجامعية الضرورية.
حسن مستراح، علوم سياسية، سنة أولى.
"إذا جعت بقطع الاوتوستراد وطريق ثاني حتى روح آكل ".
حسن يعيش تجاربه الأولى في الحياة الجامعية، دخل الكلية متشوقًا لخوض تجربة الانتقال من مرحلة التعليم الثانوي إلى الجامعي، ولكن لم تكن الجامعة على قدر توقعاته. " حتى الأكل بهالجامعة بيعرضك للخطر، إذا جعت بقطع الأوتوستراد وطريق ثاني غيره حتى روح آكل ". يقولها ضاحكًا، ويضيف " يمكن تلاقوا هالشي سخيف بس هو أقل حقوق الإنسان ".
يعتبر حسن أن الحلول متوفرة، ولو بأقل الإمكانيات. هي حلول بسيطة، ليست كافية لكنها نوعًا ما ستخفف من هذا الخطر اليومي الذي يستهدف الطلاب والموظفين والأساتذة المحاضرين على سواء، حيث يذكر أنه ومع بداية العام الدراسي تعرضت معلمة إحدى المقررات لحادثة اصطدام على الطريق عينه أثناء توجهها إلى الكلية. " وضع إشارة مرور أو مطب أمام الجامعة حل أوفر والكلفة أقل من جسر المشاة، ورح يجبر السيارات تخفف سرعتها، هالحل بيخفف الخطر بس ما بيلغيه ".
اللافت بالشاب حسن أنه يعود باللوم على نفسه هو وزملائه الطلاب وعلى المجالس الطلابية خاصًة، معتبرًا أنهم جميعًا مسؤولون عن المطالبة بحقوقهم، كونهم مدركين لها ولا بد من المطالبة ورفع الصوت وانتزاعها بأنفسهم دون إنتظار أي وسائط رسمية. ويقول: " أقل ما يمكن نوقف يد واحدة، نحنا الكليات الأربعة للجامعة اللبنانية وبالتضامن أكيد رح نقدر نغير ونستفيد كلنا ".