تركت جولات الصراع في لبنان آثارها على المجتمعات المحليّة، ولا سيما في الشمال والبقاع وجنوب لبنان، كونها ثلاث مناطق من أكثر المناطق ضعفاً في جميع أنحاء البلاد، فيما بعض المناطق لا تزال تتعافى حتى الآن من آثار الإشتباكات الطائفيّة في السنوات الأخيرة. وفي الوقت ذاته، هناك في لبنان أعلى نسبة من حيث عدد اللاجئين في العالم، فهناك حوالي 4.5 ملايين لبناني يتقاسمون مساحة بحجم جزيرة قبرص، مع ما يقدّر بـ [1]865,531 سورياً نزحوا بسبب الصراع في سوريا، وكذلك يوجد ما يقارب الـ 470,000 لاجىء فلسطيني[2] يقيمون في لبنان منذ عام 1948، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين السوريين.
وبسبب عدم وجود مخيمات رسميّة للاجئين السوريين في لبنان، يعتقد أنّ حوالي نصف اللاجئين الفلسطينيين من سوريا استقروا في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المقدرة بإثني عشر مخيماً، والتي تديرها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا). وقد استقر اللاجئون الآخرون من سوريا في الأحياء اللبنانية، والعديد منهم في المناطق الأكثر ضعفاً وحرماناً من البلاد، ولا سيما منطقة جبل لبنان. حاولنا في هذه المقالة التركيز على منطقة جبل لبنان وتسليط الضوء على أوضاع اللاجئين السوريين فيها، فكنّا أمام حقيقة أن معاناة اللاجئين واللاجئات في لبنان تتخطى البعد الجغرافي لتكون معاناة مشتركة تحمل في طيّاتها الكثير من الضغوط النفسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة المشتركة، بسبب واقع سياسي معقد وشائك في هذا البلد. فتحوّلت المقالة من التركيز على منطقة جبل لبنان إلى إلقاء نظرة عامة على الواقع السوري في لبنان.
كانت جائحة كورونا كالقشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد ضيّقت الخناق على المجتمع السوري وبشكل خاص النساء. تقول ليلى في إحدى جلسات الدعم النفسي: "عشت ثلاث سنوات في ظل الحرب في سوريا، حاولت جاهدة أن أصبر وأحافظ على بيتي وأولادي. رغم القصف والضائقة المادية، كنت مصرّة على البقاء في حمص وإرسال أطفالي إلى المدرسة. كان العِلمُ بالنسبة إليّ الضمانة الوحيدة لكي ننجو. ضاقت بنا الأحوال، وأصبح الخطر محدقاً بنا، فكان لبنان الملاذ الوحيد. جئنا ولم يكن لدينا إلا الأمل في هذا البلد. لطالما كان لبنان بالنسبة إلينا بلد الفرح". تُكمل ليلى لتخبرني أنّها ومنذ قدومها الأول إلى لبنان لم ترَ من جيرانها إلا المعاملة الجيدة. أحبّت هذا البلد. فهو المكان الذي احتضنها وأعطاها أماناً فقدته هي وأبناؤها في وطنها الأم. تستطرد وتقول: "لكن اليوم، وبعد تفشّي هذا الوباء (كورونا) تغيّر كلُّ شيء، أصبحت أخاف أن يخرج أبنائي من المنزل. أخاف عليهم وأحزن عليهم في الوقت ذاته. أخاف عليهم ممّا قد يحدث، وأحزن عليهم بسبب سجنٍ باتوا يعيشون فيه خشية المرض".
إنّ معاناة ليلى في جوهرها ليست معاناة ساذجة، فهي لا تتألم لأنّ أطفالها مسجونون معها في المنزل وضاقت بهم ذرعاً. إنّ حقيقة ما تعيشه هو واقعٌ مرٌّ يعيشه المجتمع السوري المهجّر بأكمله في لبنان. هو ما يعبّر عن صلب المعاناة الإنسانية التي يمكن أن تمرّ على أحد. فبسبب الإغلاق العام المتكرّر في البلد، بات على السوريين أن يبذلوا جهداً مضاعفاً لتأمين لقمة العيش، وغالباً ما لا يحدث ذلك، وتتراكم عليهم الديون في المحال المجاورة لبيوتهم. فبحسب تقرير لبرنامج الغذاء الدّولي، فإنّ ما يقارب الـ18% من اللاجئين السوريين في لبنان يعانون من تراكم الديون. ويساوي معدل هذا الدين نحو مليون و800 ألف ليرة لبنانية شهرياً. هذه النسب المرتفعة تشمل تكاليف الطعام، الإيجارات، الدواء والماء. وإذا نظرنا في العمق بما تعنيه هذه الزيادة، لا بدّ لنا من التنبّه إلى أّن هذه الزيادة إنما تؤدي إلى زيادة في الضغط النفسي على أصحاب هذه الديون، فلا بديل آخر لهم عن ذلك وفي الوقت نفسه لا مورد آخر يمكن أن يساعدهم على سداد ديونهم من خلاله.
كذلك بالإضافة إلى الأعباء الاقتصادية التي تثقل كاهل المجتمع السوري في لبنان، فإن وجوب بقاء العائلة بشكل كامل في المنزل نتيجة الحجر الصحي، أدى إلى ظهور نوع جديد من الضغوط التي لا تعرف معظم النساء كيفيّة التعامل معها. فمن أهم هذه العوامل هو وجود الرجال في المنازل لفترة طويلة لم يعتدن عليها. هذا التغيير في شكل حياة العائلة السورية وروتينها، أخذ يشكل إحباطاً لدى الرجال والنساء في العائلة. وهذا ما أدى في كثير من الأحيان إلى تزايد العنف الأسري، وبالتالي تزايد اضطهاد النساء في هذه المجتمعات بنسبة 4% أكثر من عام 2019، بحسب وكالات العمل المشتركة[3] للحدّ من العنف القائم على النوع الاجتماعي في لبنان. كما تبيّن أنّ نسبة العنف القائم على النوع الإجتماعي زادت بين أوساط المجتمعات السورية في لبنان تحديداً، وهذه النسبة تضمّنت التحرّش الجنسي، العنف ضد النساء والمراهقات داخل المنزل. وتبيّن على وجه التحديد، أنّ نسبة العنف النفسي كانت طاغيةً على كل نسب أشكال العنف القائم على النوع الإجتماعي تجاه النساء. أظهرت الأبحاث أيضاً أنّ نسبة 15% من النساء كنّ يخشينّ العودة بهنّ إلى سوريا، مما شكل لديهنّ نسباً عالية من الضغط والتوتر.
أخيراً، ومع كل الضغوط التي تعيشها النساء في لبنان بشكل عام وفي جبل لبنان بشكل خاص، فإن أعباء الوصول بأطفالهنّ إلى خدمات تعليميّة يشكل العبء والضغط الأكبر. فنظراً إلى إغلاق المدارس منعاً من انتقال أيّ عدوى عن طريق الأطفال، بات معظم الأطفال يشاركون في صفوف التعليم عبر الانترنت. وهذا ما يتطلّب عادةً وفي الأحوال المثالية، وجود أجهزة ذكيّة يمكن أن يستعملها الطفل: كهرباء بشكل دائم، شبكة الإنترنت بسرعة جيّدة، وشخصٌ راشدٌ قادرٌ على المتابعة مع الطفل. في وضع السوريين في لبنان، بات هذا الأمر رفاهيةً لا يستطيعون تحمل تكلفتها الماديّة والنفسيّة. فلا مال لديهم للحصول على أجهزة ذكية لأبنائهم، وإن وجدت فلا وجود لخدمات أساسيّة تدعم هذا المسار التعليمي كالإنترنت والكهرباء. بالإضافة إلى هذا كلّه، فإن معظم العائلات تقطن في منزل مكوّن غالباً من غرفةٍ واحدةٍ. وفي العائلات التي تضمُّ أكثر من طفلٍ في المدرسة، من المستحيل لهم أن يشاركوا سويةً في صفوف مختلفة تحصل في الوقت ذاته.