ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية بعد 2011 خرجت إلى الوجود تجمعات مدنية تطوعية سوريّة حاولت بتفان سد الثغرة المتولّدة عن الحصار الحكومي، وانقطاع الخدمات الأساسية، فاشتغلت على مهمات التمريض، وحملات النظافة، والإغاثة، والخدمات الإعلامية. وسريعاً ما أمسى ناشطوها هدفاً مفضلاً للقمع الرسمي، ومن ثمّ لانتهاكات المتطرفين المحسوبين على مناوئي النظام.
وتشير بعض التقديرات المتداولة إلى وجود ما يناهز الـ 2000 منظمة مدنيّة سوريّة موزعة بين الداخل والمنفى، بنسب فاعلية وخبرة ضئيلتين، مع افتقارٍ إلى هيكلية إدارية واضحة، وتنافس سلبي على الموارد، ناهيك بمعاناة الجميع من انتقال المجتمع المدني السوري الناشئ من عهد التصحّر الذي فرضته الحكومة، إلى العسكرة التي أفرزتها الثورة، في قفزة مؤلمة لا تزال مفاعيل صدمتها ماثلة للعيان. الأمر الذي استدعى وجود جهد «تأهيلي» يتمثل أكثر ما يتمثل اليوم بالورش العديدة التي يُعلن عنها على مدار الساعة، والتي تحاول ترميم النقص في الخبرات، وتطوير المهارات الفردية، والبنى المؤسساتيّة الجديدة.
ويعدّ لبنان أحد البلدان التي تستضيف كمّاً لا بأس به من هذه التدريبات، وبخاصة مع أرقام اللاجئين التي ما تفتأ مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تحدّثها شهرياً (تجاوزت 832 ألفاً)، أو تلك المستقلّة، والمتضاربة، والتي تصل بالعدد الإجمالي حدّ المليون ونصف المليون لاجئ.
غير أن أسئلة كثيرة يتم تداولها اليوم، تدور حول مدى فاعلية هذه التدريبات، واستراتيجيات الجهات المنظمة. وهذا الأمر بالذات هو مثار انتقادات «أكرم»، وهو واحد من سوريين كثر سبق لهم المشاركة في عدد من هذه الورش التدريبية، والذي يقول: «الفائدة شبه الوحيدة التي جنيتها من الورش التي شاركت فيها كانت هي التشبيك، ولقائي بسوريين آخرين تمكنا سويّاً من توطيد علاقة أوصلتنا لاحقاً إلى نشاطات مشتركة بعيدة عن أهداف التدريب الذي جمعنا».
ولا يخفي الشاب الثلاثيني، الذي أنهى تعليمه الجامعي ليجد نفسه معتقلاً بسبب نشاطاته المناهضة للنظام، تبرّمه من «غياب أي استراتيحية ناظمة لهذه التدريبات»، و«تحوّل المشاريع المقترحة للعمل مشاريع شخصية»، قبل أن يخرج باستخلاص مفاده أن «لا داعي للمزيد من هذه الـ [ووركشوبات]، إذ لم يبق أحد في سوريا. ومن بقي هناك من ناشطين مدنيين باتوا غير قادرين على الحركة». ويسأل: «أين كانت هذه التدريبات في أول سنتين، عندما كان هناك لا يزال متسع للعمل المدني؟».
يختلف، من جهته، المدرب اللبناني جان كورس، ومدير المركز الدولي للتنمية المؤسساتية (ICOD)، مع وجهة نظر «أكرم»، لجهة عدم جدوى هذه التدريبات، وإن كان يوافقه على مسألة غياب الاستراتيجيات والتنسيق.
يقول «كورس»: «نعم، الأوضاع دائمة التبدل في سوريا، ولكن استجابتنا، كمؤسسات مجتمع مدني، يجب أن تلحظ ذلك، وأن تكون ديناميكيّة بدورها. المطلوب منا، عندما نتحدث عن نقل المهارات، أن نقوم بتحليل سياقي نبني عليه شكل هذه الاستجابة. إذ أنّ هدفنا هو تنمية قدرات الأشخاص على القيام بهذا التحليل، وليس فقط تقديم المساعدة المباشرة، فبناء القدرات هدف تنموي وليس إغاثياً محضاً».
أمّا عن قضية غياب التنسيق بين المؤسسات التدريبيّة، فيقرّ «كورس»، الذي سبق له أن شغل منصب «منسق دولي للإغاثات»، بأنّ التنسيق «شبه معدوم»، قبل أن يضيف آسفاً: «سوء التنسيق هذا ينسحب على قطاعات أخرى في ما يتعلق بالوضع في سوريا. وهذه إحدى المشكلات التي عانينا منها في بلدان أخرى أيضاً. فهناك دورات تتكرر بلا مساءلة، وكلٌ يعمل بطريقة بعيدة عن التكامل المطلوب، وما يقتضيه مبدأ ردم الفجوة بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون. وإن كان هناك أطراف تستغل هذه الدورات؛ فنحن لا نعترف بها، ومعظم من نعمل معه مدرك لذلك».
مسألة شائكة أخرى، برأي «أكرم»، تتمثل بالقوالب الجاهزة التي يحاول بعض الميسرين استيرادها لتلقينها للمتدربين السوريين. ويضرب المثل بشيوع توزيع سلال غذائية في بعض المناطق السورية تحوي حصصاً مبالغاً فيها من مادة «الرز»، تبين لاحقاً أنّها مبنية وفق نموذج تدريبي مقتبس حرفياً عن حملات الإغاثة الدولية إثر كارثة «تسونامي» في 2005.
وهذا ما لا يوافق عليه «كورس» الذي يقول صراحة: «لا نريد أن نعمل وفق أي أجندات أو برامج مسبقة، سواء أتتنا من الغرب أم من الشرق»، ويؤكّد: «حتّى في ما يتعلق بالاستفادة من الدروس الأخرى، ومنها التجربة اللبنانية على سبيل المثال، يجب أن ننتبه إلى أنّ للسياق المحلي أولويّة قصوى. فتغيّر المعطيات يفرض تغيّر طبيعة الاستجابة. ونحن بحاجة دائماً إلى خبراء من المنطقة، والخبير الوحيد في سوريا، هو الشعب السوري. وعلى السوريين، بالطبع، قراءة التجارب الأخرى، وتشكيل رأيهم الخاص، وما نقوم به هو تمكين أبناء البلد من المهارات اللازمة لأداء المهمة، لا القيام بالمهمة بدلاً عنهم».
وبين رأي «أكرم» الذي يصرّ على أنّ «سهرة» بين أصدقاء جديين في إنجاز عملهم قد تقوم مقام ورشة تدريبية ستكلّف آلاف الدولارات في أحد الفنادق اللبنانية؛ يؤكد «جان كورس» وفقاً لخبرته، أن التدريبات المبرمجة تملك أبعاداً تنموية طويلة الأجل، وأن غايات المؤسسات الملتزمة هذا النهج ليس جلب السوريين إلى لبنان، «ولكن في ظل عجزنا عن الحضور في سوريا؛ سيكون تركيزنا على إعداد مدربين سوريين قادرين على القيام بالمهمات الإنسانية، بأنفسهم، وفي مناطقهم».