تركوا أحذيتهم في الطريق. ركضوا في كل الجهات. كان الرصاص ينهمر عليهم من كل حدب وصوب. للوهلة الأولى، قررت التراجع معهم، خصوصاً أن مجموعة من العسكر تقف على سطح أحد المباني أمامنا، وتحاول تصيد الناس. وبالفعل، أردت واحداً من المتظاهرين جثة وقعت على الأرض، وراحت الدماء تسيل منها. لم أنسحب، فعندما نظرت إلى جسد القتيل، الذي ارتفعت فوقه غيمة من الغبار والدخان الأسود، نتيجة حرق الاطارات، قلت أن الليل قد حل.
الآن، لا يستطيع النظام مشاهدتنا جميعاَ، إذ بدأنا نصير لا مرئيين، بالنسبة اليه. لذا، يمطرنا بالرصاص عشوائياً، علّه يصيب أكبر عدد منا. أما، تلك الأخفاف الموزعة على الأرض، فلا يزال أصحابها ينتعلونها، لكن، أجسادهم اختفت. نحن خرجنا في الليل، على خلاف ما يُقال، ذاك، أن لولا الظلمة، لكانت السلطة أبصرتنا أكثر، ثم، أعادتنا إلى زمنها المغلق، الذي لا ضوء فيه، ولا عتمة.
إنها «جمعة العشائر». التظاهرة الأولى التي أشارك فيها. فقبلها بأسبوع، تمكن أحد الأصدقاء من تهريب مقطع فيديو على «موبايله»، صُوِّر في منطقتنا بإدلب، وتظهر فيه وقائع جنازة أحدهم، كان النظام قد قتله في احد التحركات. هرّب صديقي الفيديو من سوريا إلى لبنان، وصل إلى البقاع، والتقيت به في باحة الجامعة، التي كنت أتابع دراستي فيها. تفرجت على المقطع المصوَر، ولاحظت أن تلك الساحة، التي كانت تُستعمل لتشييع الموتى، باتت لإستقبالهم، فالتصفيق، والإنشاد، ورفع اللافتات، حول المكان المأتمي إلى مكان بملامح أخرى. فحين كان الناس يودعون القتيل، كانوا يستقبلون أنفسهم. أمام هذه المشهد، شعرت أنني سقطت من علو مرتفع في جسدي، وعندها، قررت أنني سأذهب إلى سوريا، للمشاركة في حراك الشارع.
ما أتذكره من «جمعة العشائر» أنها كانت تمريني الأول على الخداع، كوسيلة لمواجهة النظام، بحيث أنه، في ذلك اليوم، وبينما كانت القوى الأمنية تحاول صيدنا برصاصها، صنعنا خدعة من أجل تخويفها. إذ رحنا نضرب على أبواب الحديد في الشارع، كي تصدر صوتاً شبيهاً بصوت الرصاص، فأوهمناها بأننا نستعمل أسلحة كي تتردد قليلاً عن قتل الراكضين في الطرق.
لقد كانت خدعة صوتية لخوض الليل، الذي خرجنا فيه، ولحماية سكانه، الذين سرعان ما بدأوا بتدبير أسلحتهم الفعلية، من بنادق صيد، وبواريد حربية خفيفة. وأعتقد، هنا، أن «جمعة العشائر» كانت جمعة انطلاق التسلح، وانتشاره بين الناس. هذا، وقد أدركت، في تلك التظاهرة، أمراً بالغ الأهمية، وهو أن الشارع، كما رسمه حراكنا، يساعدنا على الهرب، وليس على الوصول. فكنت أمشي، وأحياناً أركض، ولا أعرف وجهتي، لكنني، مدرك أنني أمنع الأمن من رؤيتي، وفي سبيلي، أضرب على الحديد، ممثلاً إطلاقي الرصاص على القاتل. في كل الأحوال، عرفت في ذلك اليوم، أن معنى «كل شيء» تغيَّر، أو أن معانيه القديمة قد سقطت على الأقل. الدليل على ذلك: كنت خائفاً، غير أنني لم أتوقف عن الضحك.
عدت إلى لبنان. لكن، هذه المرة، للعمل في بيروت، التي لطالما كانت توحي لي بصورة بشعة: جسر ضخم، وتحته، جثة مرمية. لم تفارقني هذه الصورة حتى بعد أن قطنت في المدينة. وبعد فترة، رحت أفكر في مصدرها، فهل هو الحكايات التي سمعتها عن أوضاع السوريين في لبنان، وقد رسختها معاملة اللبنانيين لي، عندما عشت طالباً في البقاع؟ لا أعرف فعلاً، إلا أنني، في عودتي إلى هذه البلاد، كنت أرغب في التعرف الى الآخرين، أن أخبرهم عن ليلنا، وعن ثورتنا التي حدثت لإسقاط النظام، الذين عانوا، تماماً مثلنا، من احتلاله. لكنني، اصطدمت بالكثير من الحواجز، أهمها، تصورهم عني، بطياته العنصرية والطبقية، التي ضاعفتها صفة اللاجئ.
أردت، بعد أن خلقت ذاتاً جديدة لي، لا علاقة لها بالنظام، أو بأبده، أن أتصل بالآخر، الذي منعني «البعث» عن التفاعل معه، وقد كان من البديهي أن يكون الإحتكاك الأول مع هذا الغير قاسياً، ومؤلماً، لدرجة أنني صرت، في أوقات معينة، شبه متأكد من كرهه لي، ومن كرهي له. أنا الآتي على متن الموت إلى هنا، كان هذياني شديداَ، كما كانت الحواجز، التي يضعها الآخر أمامي، مرتفعة للغاية. هل كانت جثتي الملقاة تحت الجسر، أم جثته هو؟ في ليل بيروت، اكتشفت أنها جثة كل واحد منا.
هذه المدينة تسيل في ليلها، يتدفق اجتماعها في شوارع السهر وعلى أرصفته، حيث يختلط الحابل بالنابل، وتكون الصلات بينهما كحولية بامتياز. فالكحول تُسيِّل ضغط النهار السابق، ليعيد انتاجه في اللاحق. وعلى اثره، يجتمع الساهرون، الذين صرت واحداً منهم بطريقة متدرجة. ففي البداية، كنت حين أشرب، أصاب بما يشبه الحنين، وأبدأ بالكلام مع الآخرين عن بلدي الأول، ثم، في ما بعد، بت أشرب وأتحدث عن معاناتي في بلدي الثاني، أو مدينتي بيروت. وفي الحالتين، كانت ردات الفعل تجاه حديثي صامتة.
فالآخر، الذي التقي به خلال النهار، وينظر إليّ بنفور متفاوت، أكان قاطعاً أو متقطعاً، يقف أمامي بلا معوقات. غير أنه، في معظم الأوقات، لا يتصل بي قولاً. كأننا، نحن، الذين مُنعنا من التعرف الى بعضنا البعض لعقود من الزمن، بدا لنا، حين وقع احتكاكنا الكحولي، أن لا نزاع بيننا، وفي الوقت نفسه، لم نشترك في أي موضوع من قبل. في الليل، كان اختلافنا ساكناً، ولا حراك فيه، فهو أقرب إلى هدنة بين الفوارق.
من الناحية نفسها، أو بالقرب منها، غالباً ما كنت أشعر أن ليل بيروت هو نهاية التظاهرة في سوريا، حيث نكون قد بنينا لا مرئيتنا لخداع القوى الأمنية، التي لا يحضر تحت عينها من آثارنا سوى أحذية بلا أجساد وصوت رصاص بدون إطلاق نار. ربما، في مدينتي الثانية، الكحول، بالإضافة إلى الكلام المرافق له، هو خدعتنا، التي نتحايل بها على النظام، كما هي الحال في سوريا، بل على أنفسنا، لنقول أننا أحياء. بيروت تمارس لا وعيّها مسيلاً في الليل، وتكبته صباحاً، فيتبدد التعارف المسائي، وبالتالي، يرجع الآخر إلى تصوره عني. أما، أنا، فأتمسك بجروحي.
على أي حال، حتى هذه التجربة المبددة، لا يستطيع الكثير من النازحين إلى لبنان أن يمارسوها، ذاك، أن المناطق، التي يسكنوا فيها، تمنعهم من التجول عند حلول المساء. إذ يريدهم القيّمون على قرار المنع هذا، أن يكونوا عمالا، وعمالا فقط، يعني، أن يمضوا نهارهم في ورش الإنتاج، ومن ثم، يُحتجزوا في منازلهم طيلة فترة المساء. وبالمناسبة، أحد أصدقائي، يعمل في توزيع أكياس مكعبات الثلج على مطاعم وحانات شارعي الجميزة ومار مخايل. يضع الثلج على أبواب الليل، ثم، يُسرع إلى منطقته، التي ارتفعت فيها لافتة، تفرض عليه العودة إلى بيته قبل الساعة السابعة مساء... قبل أن يذوب النهار في الكؤوس.