لقاء الجماعة
يمكن تسمية المرحلة الأولى بـ «لقاء الجماعة»، يختزل فيها زياد خصائص الآتين من سوريا، جماعة يوحّدها شعور بأنها منبوذة ومحتقرة من الجماعة الثانية، جماعة وائل، العاجزة عن فكّ الارتباط بين النظام السوري الذي حكم لبنان كما سوريا بقبضة حديديّة، وبين اللاجئين من عنفه وعنف الحرب الدائرة هناك في مدنهم وقراهم.
في لقاء الجماعتين ذاك، تتداعى الصور التاريخيّة والأحكام المسبقة، ينظر وائل الى زياد نظرته الى ضابط المخابرات في زمن الهيمنة السورية على لبنان، فينعزل زياد وجماعته الهاربين من ضابط المخابرات نفسه، في رغبة بالانفصال التام عن الجماعة اللبنانية، ويبادلهم وائل وجماعته بالمثل.. وتكبر الهوّة الى ما لا نهاية.. انها الهوّة بين ضحيّتين لعارض واحد..
في ظروف كهذه، تبدو مساحة اللقاء الأول أشبه بمشفى نفسي يعالج ضحايا الحروب، فلدى دخول المريض النفسي الجديد، وهو السوري في هذه الحالة، تتحكّم به رغبة في عدم الاختلاط مع الضحايا السابقين وسلوك عدواني انعزالي، يقابلهما المصابون القدامى بالمثل، قبل أن يمرّ عليها الزمان وينشأ فضول عند المصاب القديم للتعرف الى المصاب الجديد والذي ينشأ عند الجديد أيضاً بعد مرور الوقت.
الضرورة والزمن والتجارب
في حقبة «فرط الموت» هذه، بدأت محاولات لإعادة بناء علاقات اجتماعية مستقلة عن التاريخ وترسّباته ولا سيما تلك المتعلّقة بالحرب والقتل والدمار، وإذا كنا ما زلنا نتحدّث عن ثورات ووعي جديد رغم كلّ العنف الدائر حولنا، فالثورة الحقيقية ليست فقط تلك التي تدهشنا بضخامتها بل أيضاً التي تؤثر في الآراء العامة والتصوّرات، وربما تكون مراجعة العلاقة السورية اللبنانية إحدى هذه الثورات.
في إحدى الجلسات الاجتماعية المشتركة بين السوريين واللبنانيين، تحدث شاب سوري عن موقف تعرض له على حاجز للأمن السوري، فشاركه شاب لبناني تجربة شبيهة مرّ فيها على حاجز للأمن السوري أيضاً في لبنان، وسرعان ما تحوّلت الجلسة سرداً لتجارب تجمعها تفاصيل مشتركة عن الفقدان والموت والحرب والتعايش مع القصف والحصار والمعارك..
ورغم كل ما يشعر به كُثُر من السوريين في لبنان، إلاّ أن نشوء علاقات اجتماعية متينة، ومشاريع ثقافية وفنية واجتماعية مشتركة بين سوريين ولبنانيين، خصوصاً من جيل الشباب، لم يعد أمراً خافياً.
إنها الضرورة وعامل الزمن والتجريب..
الاحتقان
علّقت بلديات لافتات في بعض المناطق اللبنانية كتب عليها «ممنوع تجوّل السوريين بعد الساعة السادسة مساءً».. أثار ذلك سخط السوريين وغضبهم، ليس السوريين وحدهم، بل سرعان ما تحركت مجموعة من الناشطين اللبنانيين في حملة مضادة لاقت صدى واسعاً في لبنان وتقديراً في صفوف السوريين في لبنان وفي الداخل السوري أيضاً..
قد يكون طبيعياً أن تمر العلاقات الجديدة هذه بلحظات تتفجّر فيها رواسب التاريخ والماضي والمعرفة الملقنة القديمة، فإلغاء صور نمطيّة ومشاعر مرتبطة بها عمرها ما يقارب الثلاثين عاماً ليس بالأمر اليسير.
طفولة اليوم في سوريا
طفولة الأمس في لبنان
قبل أيام وفي جلسة أخرى بين الأصدقاء السوريين واللبنانيين، تحدثت إحدى الشابات السوريات عن مسلسلات الكرتون التي كان يعرضها التلفزيون السوري في أواخر الثمانينات، وهي من مكوّنات الذاكرة الأساسيّة لدى جيل الشباب السوري في زمن الحصار الاعلامي والفنّي الموجّه الى النظام البعثي.. ظنّت الشابة أن ذاكرة المسلسلات مشتركة مع اللبنانيين أيضاً على غرار أمور كثيرة تجمع «الشعب الواحد في دولتين» بحسب تعابير النظام السوري، لكن «في ذلك الوقت، في سنوات الحرب، لم تكن الكهرباء متوافرة في بلدنا ولم نكن نشاهد التلفزيون ولا نعرف مسلسلات الكرتون»، كما علّق صديق لبناني.
لم يمر هذا الجواب عابراً، بل انه نقل من كان في تلك الجلسة من سوريين إلى مشهد متخيّل بعد خمسة عشر عاماً من اليوم. حوار مشابه بين شاب سوري وآخر لبناني، في مكان ما من مدينة ما، يتحدثان عن ذكريات الطفولة ومسلسلات الكرتون، ويعلّق حينها الشاب السوري وقتذاك، الطفل اليوم «في ذلك الوقت، في سنوات الحرب، لم تكن الكهرباء متوافرة في بلدنا ولم نكن نشاهد التلفزيون ولا نعرف مسلسلات الكرتون».