تشهد حياة الهرمليين أن حمص كانت حاضرتهم في الكثير من تفاصيلهم اليومية، هواهم كان شمالياً على الدوام رغم أن المسافة تتساوى بينها وبين بعلبك. جذبتهم مدينة ديك الجن باكراً فجعلوها قبلتهم وحفظوا أمكنتها كباطن كفّهم، ورغم أنها لم تكن الأرخص في بعض الحاجات إلاّ أنها كانت الثقة التي لم تخيّب يوماً مريديها، فلا فرح يكتمل إلاّ بوجود حمص بقلاوةً وزينةً وثياباً وحليّاً وأثاثاً، وهي الشافيةُ المعافيةُ داءً ودواءً، مدافئها تدرأ بردَ شتاءاتهم القاسية، وإليها يلجأون في بعض فسحاتهم بعيداً عن أعين العوازل، من مدارسها حمل بعضُ الأوّلين العلمَ بما تيسّر يوم كان وصولُ الحرفِ صعباً إلى الهرمل، ثم نهل اللاحقون من جامعاتها الطبَ والهندسةَ يوم ضنّ الوطنُ بجامعة وطنية تضمّ بين جنباتها من اجتهدَ من الفقراء ولم يستطع لعلم المعاهد الخاصة سبيلاً بسبب غلاء التكاليف.
الحرب الدائرة هناك أرخت ظلالاً كثيفة من الحزن والأسى على حياة الهراملة، فحمصهم التي في القلب والعقل تحترق وما من معين، بينما تتقافز في ذاكرتهم اصوات أهلها وصور وجوههم التي لم تكن يوماً إلاّ دافئة. بعض هؤلاء ارتحل إلى الهرمل وأقام فيها سكناً وتجارةً ولا يأمل إلاّ عَوْداً سريعاً إلى بيته وصحبه، فأنِسَ إليهم الهراملة واستعادوا عبرهم قليلاً من الحياة التي مرت ذات سفر، يفرحون بالتحدث معهم باللهجة الحمصيّة، ويقفون فرحين عند دخولهم المتاجر ليعلنوا «هنا حمص».. أو ربّما يُشَبَّه لهم ذلك لكثرة الحب والتعلّق ولسكنى الذاكرة.
يجتهد حماصنة الهرمل من أجل خلق مساحات جديدة كي يمارسوا ما اعتادوه من عيش رغم كل المآسي التي عاشوها ولا يزالون، ربما ليملأوا أوقاتهم التي تقتات منذ ثلاث سنوات ونيف مرارة الخيبة والحزن، لكنهم دون شك يفعلون ذلك لأنهم طلاّب حياة، وأكثر ما يتّقنونه فيها فن العيش مع الآخرين والمكارمة في محبتهم، هم بعض الفلفل الجميل الذي يلوّن شوارع المدينة ويجعل خسارة أهلها لحمصهم أخف وطأة، بسمتهم الوافرة بيانهم الوحيد والدائم ضد الموت. يواجهون بها هذا الحقد الهائل الذي يبثه الكون المسموم ويمضون مصرّين على المزيد من الحبّ.
حماصنة الهرمل - باقون على العهد - يبيعون أهلها الأمل، لطفهم ودماثتهم هما تعويذتهم الوحيدة ضد الخراب.
مدينتهم هي الخميرة التي لا يستطيع الهراملة الاستغناء عنها لإنضاج أوقاتهم، الأخيرون أيتام بدونها، يشهد على ذلك الشجن الذي يقطر من أحاديثهم كلما ذكروها «ضيعانك يا حمص».
يندر أن نجدَ مدفأة في الهرمل إلاّ وصنعت فيها، كأنما تردّ لهرملِها جميلَ ماء العاصي الذي خرج عن طاعة الأنهار ذات نبع واستدار شمالاً كرمى لها.
منها حلاوة الجبن وفيها حلاوة الأيام.. للّه دَرّكِ يا حمص.
أول مصنع لـ«مصاصات» للمتة نقله أبو عبدالله من حمص إلى لبنان (تصوير: بومدين الساحلي)