ثم بدأت مئات العائلات تفد من عمق سوريا وحتى من أطرافها القريبة الى الحدود التركية أو الأردنية، ذلك أن القسم الأكبر من العشائر العربية السورية لها امتداداتها العائلية مع عشائر العرب في لبنان سواء في البقاع أو في منطقة عكار وخصوصاً وادي خالد التي تعيش فيها عائلات كثيرة نصف ابنائها سوريون ونصفهم الآخر لبنانيون. واعداد اللاجئين السوريين في وادي خالد قد تجاوز الـ 30 ألف لاجىء، اي ما يوازي عدد سكان هذا الوادي من اللبنانيين.
هذه العلاقات العائلية يبدو واضحاً أنها غير مقتصرة على طائفة أو مذهب معيّن وهي غير محددة بمكان دون غيره، بل هي حالة شبه عامة تشمل كل الطوائف اللبنانية بحكم النسب والمصاهرة التي جمعت عائلات لم تكن تعرف بعضها البعض اساساً، بحيث ان العديد من الشباب والصبايا السوريين واللبنانيين الذين اقدموا على الزواج، ساهموا بنوع ما في ايجاد نسيج اجتماعي وعائلي حديث ولا سيما في القرى والبلدات الحدودية الشمالية المتداخلة مع بعضها البعض، انطلاقاً من بلدة العريضة صعوداً وعلى امتداد مجرى النهر الكبير مروراً ببلدات السماقية وحكر الضاهري والشيخ عياش والعبودية وقشلق وفريديس والدبابية والنورا ومنجز ورماح وشيخلار وشدرا ومشتى حمود والمقيبلة في وادي خالد، وصولاً الى حدود منطقة جبل اكروم حيث يوجد في كل قرية وبلدة لبنانية رابط عائلي وأسري مع عائلات سورية.
رئيس بلدية وادي خالد نور الدين الأحمد، اشار الى أن الاوضاع السورية المتوترة ساهمت في ارتفاع اعداد العائلات السورية الوافدة الى منطقة وادي خالد، كما انها فرضت امراً واقعاً على صعيد تنامي العلاقات العائلية والاسرية «اللبنانية والسورية» ليس بين التي كانت تربطها علاقات النسب والقربى فحسب، بل ان عدداً كبيراً من شبّان ابناء الوادي قد تزوجوا حديثاً (خلال الأعوام الثلاثة الماضية) من فتيات سوريات لا تربطهم بهن اية روابط قربى، فنشأت بالتالي علاقات نسب جديدة. ولفت الى أنه استضاف في منزله اكثر من 50 سورياً ينتمون الى 7 عائلات سورية بعضهم اقارب، اما الباقون فهم يفدون للمرة الاولى الى وادي خالد.
واشار الى أن اكثر من 300 شاب من وادي خالد والقرى والبلدات المجاورة في مشتى حسن ومشتى حمود وقرى جبل اكروم خصوصاً، كما في بقية المناطق العكاريّة، قد تزوجوا خلال الأعوام الثلاثة الماضية من فتيات سوريات نازحات. وهذا يعني ان 300 عائلة جديدة نشأت خلال فترة النزوح، علماً أن الامر المستجد هو من النتائج المباشرة بسبب طول أمد الازمة السورية. وقال: «إن الحياة ستستمر رغم قساوة العيش وضيق الحال والامور القسرية التي نمر فيها جميعاً، الاّ أن العادات والتقاليد تحتّم علينا إلتزام أعراف لا يمكننا الخروج عنها».
واعتبر الأحمد ان الواقع المجتمعي والاسري في وادي خالد شهد تغييرات ملحوظة منذ بدء النزوح السوري وحتى اليوم، ذلك أن هذا العدد الكبير من اللاجئين وان كانوا اقرباء او انسباء او ضيوف اعزاء تمّ استقبالهم بكل رحابة صدر في منازلنا، الا ان هذا الواقع الديموغرافي الجديد اثّر سلباً في مجمل الأنشطة الاقتصادية لأبناء الوادي الذين يعانون واقعاً اقتصادياً ومعيشياً صعباً حيث لا فرص عمل ولا مجالات انتاج مع اقفال كل ابواب العمل في وجه الشباب، وقد زاحمت اليد العاملة السورية نظيرتها اللبنانية في الاعمال الزراعية والحرفية والمهنية.وثمة تخوّف كبير من اهتزاز الثقة في العلاقة بين العائلات اللبنانية والسورية بسبب هذه الاعتبارات. وقال: «اننا نتطلع الى نهاية الازمة السورية سريعاً ليعود ابناء العائلات السورية النازحة الى بلداتهم وقراهم في أقرب وقت، وهذا أمر يتمناه جميع اللبنانيين والسوريين».
احمد الشيخ، احد وجهاء قرية رجم عيسى في وادي خالد، تحدث عن اللحظات المريرة التي عاشها ابناء قرى هذه المنطقة وبلداتها، كذلك بقية اللبنانيين سكان القرى والبلدات الحدودية مع بدء الأزمة السورية، والذين تقاسموا الهمّ ولقمة العيش والمسكن والمعاناة مع اشقائهم السوريين الذين تمّت استضافتهم منذ اليوم الأول، وها قد مضت 3 سنوات على بقائهم.
ولفت الى أنه منذ بداية الأحداث في سوريا، وفدت الى منزله عائلة سورية مؤلفة من19 شخصاً، لا تزال تسكن فيه. وقال: «بعد مضي نحو 18 شهراً على اقامتهم في منزلي حيث عملت على تأمين وتغطية مصاريفهم كاملة أسوة بابناء عائلتي المؤلفة من 14 شخصاً، بدأ عدد من هيئات الاغاثة يقدم اليهم بعض المساعدات العينيّة والمعيشيّة التي بالكاد تكفيهم لمدة عشرة ايام، ووضعي الاجتماعي هو واقع كل العائلات اللبنانية في وادي خالد وهذا امر يدركه جيداً السوريون المقيمون والمستضافون لدى هذه العائلات، كوننا جميعاً ابناء عائلة واحدة تقريباً وتربطنا صلاة نسب ومصاهرة».
وشدد الشيخ على ان عامل القربى والنسب أمر بالغ الاهمية بالنسبة الى مجتمعاتنا التي استضافت طوعاً أقرباء لهم وانسباء سوريين، الامر الذي خفف كثيراً من وطأة النزوح تحت عنوان واحد: هل يتخلّى الاهل عن بعضهم البعض؟ انها عادات وتقاليد ومشاعر انسانية لا يمكن لأي كان تجاهلها أو التنكّر لها، وهذا هو شأن الكثيرين من الأقرباء والأنسباء خصوصاً في البيئة العشائرية التي لا تزال متأصلة في بنية المجتمعات التقليديّة في هذه المنطقة وعلى جانبي الحدود. فاللبنانيون والسوريون في هذه المنطقة، عاشوا قبل الازمة في سوريا، لذا لن تتغيّر حياتهم وتقاليدهم مهما طال أمد هذه الحرب أو قصر. ورغم الصعوبات التي تواجهها المجتمعات المحلية المضيفة، وهي بمجملها عائلات فقيرة غير مقتدرة اقتصادياً ولا مردود مالياً منتظماً للقسم الاكبر من ابنائها.
ولفت الى ان عدد سكان قريته رجم عيسى هو في حدود الـ 2000 شخص، اما السوريون النازحون فقد وصل عددهم الى 800 شخص. واننا نتطلع الى الدولة اللبنانية والجهات الدولية المانحة ان تنظر بعين الرعاية الى المجتمعات المحلية المضيفة لتمكينها من الصمود، والاّ فإن الاوضاع المعيشية الصعبة قد تعرّضها الى الانهيار، وسوف يكون لهذا الامر تداعيات سلبية.
خالد الياسين من بلدة العمايير الحدودية، أكد ان عددا كبيرا من الاخوة وابناء العمومة في وادي خالد يحمل قسم منهم الجنسية اللبنانية والبعض الآخر الجنسية السورية، ومنهم من يسكن وادي خالد وقسم اكبر في مدن وبلدات وقرى سورية. وعلاقة المصاهرة قائمة منذ القدم بين ابناء البلدات اللبنانية والسورية الحدودية الذين يشكلون بيئة واحدة وعائلات واحدة، وهذا الأمر بدا ظاهراً في المرحلة الأولى لحركة النزوح مع بدء الازمة السورية، إذ أن اهالي وادي خالد استضافوا القسم الاكبر من النازحين في منازلهم لأن جلّهم اما اخوة أو ابناء عم أو تربطهم علاقة قربى المصاهرة والنسب.
تقول خالدة وهي ربّة منزل عدد ابنائها 9 واضيف اليهم 9 آخرون من ابناء اخويها اللذين تمكنا من الهرب من احدى القرى السورية في ريف مدينة تلكلخ. تأقلمنا مع الوضع رغم صعوبة الواقع المعيشي، فتزوج احد ابنائي احدى بنات اخوتي وانجبا بنتاً، انها الحياة وهي ستستمر رغم ظلمة واقع ما نعيشه، هناك نافذة ضوء يجب ان ننظر من خلالها...انه الأمل.
نحن سعداء فقط لأن ابنائي وعائلتي بخير، لكن ثمة العديد من جيراننا قضوا خلال الحرب في سوريا ومنازلنا تدمرت وحقولنا خربت وبارت. اوضاعنا الاقتصادية صعبة وزوجي مريض، عدد من ابنائي يقومون ببعض الاعمال الزراعية حيث المردود المالي ضئيل وبعض مساعدات الاغاثة الشحيحة التي تتلقاها عائلتي اخوي السوريتين تساهم في رفع العبء جزئياً. لكن هذا الامر غير كاف، وفرص العمل صعبة واوضاعنا الى تدهور مستمر.
مرعي حسن يقول إنه استضاف في منزله المؤلف من 4 غرف، ثلاث عائلات سورية (21 شخصاً) وهكذا ابناء عمومته. وكما في رجم حسين كذلك الامر في العوادة والكنيسة وبني صخر والمقيبلة والهيشة والرامة وبقية القرى والبلدات التي كان يسكنها قبل 3 سنوات حوالى 35 الف لبناني، اما اليوم فان عدد السكان فيها ارتفع الى اكثر من 70 الف شخص، اي ان نحو 35 الف سوري باتوا يسكنون في وادي خالد.
ويبقى السؤال: هل تطيح التداعيات السلبية لحالات النزوح السوري الى لبنان، أواصر العلاقات العائلية والقربى والنسب، ام ستعززها وتدفع بها الى الامام؟
انه سؤال برسم الايام المقبلة التي سترسم وتحدد معالم الاجابة عنه.