يقول أبو إبراهيم، والد مريم، أن عائلة محمود الحجيري منحتهم غرفة زراعية تؤويهم، وسمحت لهم بنصب ثلاث خيم بالقرب منها، والأهم أنها تغاضت عن اصطحابهم نحو مائتي رأس غنم إلى أراضيها. الحجيري بدوره يملك قطيعاً كبيراً من الأغنام، لكنه قال لأبي إبراهيم «يسوانا ما يسواكم، أهلاً وسهلاً بكم، سنتقاسم المرعى أيضاً».
موقف الحجيري لا يشذّ عن موقف عرسال كلها. تميّزت تلك البلدة المعزولة عن لبنان، إلاّ عن طريق متعرجة وضيقة تصلها عبر «اللبوة» في البقاع الشمالي، باحتضانها العدد الأكبر من النازحين السوريين، بغض النظر عن الآثار السلبية التي تركها هذا الاحتضان على كل نواحي الحياة فيها.
ليس بعيداً عن أبي إبراهيم، ينشغل حيدر الفليطي في تثبيت خيمته. نزح الرجل من بلدة الطفيل اللبنانية التي تقع داخل الأراضي السورية. الطفيل هي نفسها البلدة التي كان رئيس الجمهورية ميشال سليمان يشدد أخيراً على شق طريق تصلها بلبنان، بلدها الأم. لبنان نفسه نسي الطفيل وأهلها منذ الاستقلال حتى اليوم.
يقول الفليطي أن أحداً لم يقف إلى جانب النازحين اللبنانيين من سوريا. وحدها عرسال فعلت. وها هو مصطفى عز الدين، ابن عرسال، يساعد الفليطي في بناء حظيرة لإيواء أبقاره الست قرب خيمته «لولاهم، لولا العراسلة، يقول حيدر، لوجدنا أنفسنا في العراء».
تضامن يشبه طبيعة «العراسلة» الشهيرين بكرمهم ونخوتهم. عرسال التي تعاني الإهمال المزمن، ومن تركها هناك في عزلتها الجغرافية على الصعيد الرسمي، تقاسمت ما تملك، على قلته، مع السوريين القادمين من تحت نيران الحرب والتهجير. والموقف ليس جديداً على البلدة المحكومة بـ «الجيرة» التاريخية مع سوريا ومناطقها وأهلها.
تقع عرسال بين منحنيات سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتحديداً في منتصف الطريق ما بين الحدين السوري واللبناني. فلا هي مفتوحة على لبنان (إلاّ عبر طريق اللبوة)، كما أنها لم تدر ظهرها يوماً للجانب السوري. علاقات «العراسلة» مع السوريين تاريخيّة. تاريخ لم يتأثر بترسيم الحدود مع «سايكس- بيكو». بقيت الوجهة التجارية المحببة إلى قلب عرسال هي سوريا، بمعنى التجارة الحدودية، أو ما تسميه السلطات الرسمية بالتهريب. مصالح رسخت الشراكة التجارية، ومعها علاقات القربى، بين السوريين و«العراسلة» ورفعت عديد الزيجات المختلطة بينهم.
يقول رئيس بلدية عرسال علي الحجيري أن عدد النازحين السوريين المسجلين في البلدية وصل إلى 120 ألفاً، مشيراً إلى وجود نحو 10 آلاف سوري على الأقل غير مسجل. منهم من نزح على خلفية المعارك الأخيرة التي دارت في رنكوس ومحيطها وعسال الورد، طبعاً عدا عن نازحي قارة ويبرود ودير عطية وجراجير وغيرها من المناطق.
بالإضافة إلى العوامل السياسيّة والدينيّة والطائفيّة التي تحكم عملية توزع النازحين عموماً في لبنان، يؤدي موقع عرسال الجغرافي دوراً كبيراً في ارتفاع عدد القادمين إليها. إذ يمتد خراج عرسال الحدودي مع سوريا على مساحة نحو 60 كيلومتراً مفتوحة على القصير وريفها وقراها من جهة، وعلى منطقة القلمون الفوقا وصولاً الى الزبداني في العاصمة دمشق من جهة اخرى. والأهم، أن عرسال كانت ومازالت، الظهر الآمن للسوريين الهاربين من جحيم التقاتل في بلادهم.
وعليه، لم تسأل عرسال وأهلها عن المساعدات وبدلات الإيجار وكلفة النزوح وإيواء النازحين في الأشهر الأولى للأحداث السورية. فتح العراسلة الفقراء منازلهم للسوريين. تقاسموا البيوت، ومن لا يملك منزلاً كبيراً تقاسم الغرف مع القادمين، واشتركوا في استخدام المطابخ والمراحيض.
تقول ريما الفليطي التي قادت حملات مدنية لجمع التبرعات للنازحين الوافدين في بداية الأزمة، «أن كل عرسالي قدم ما أمكنه للوقوف إلى جانب النازحين. بدأت التبرعات من تقديم المنازل والغرف للسكن، إلى الأراضي لنصب الخيم، إلى أثاث البيوت والسجاد والأغطية، إلى الألبسة وطبعاً المواد الغذائية. لم يتلقّ معظم العراسلة بدلات إيجار من السوريين إلاّ بعد نحو ستة أشهر على اندلاع الحرب في سوريا، ولا يمكن لأي إنسان أن يتحمل وحده عبء النازحين لسنوات».
ومع ذلك، يشير رئيس البلدية إلى وجود نحو ثلاثمائة عائلة سورية ما زال أفرادها يقطنون في منازل وشقق قدمها أهالي عرسال من دون أي بدل مادي، حتى اليوم.
يعترف رئيس بلدية عرسال أن أعطالاً كبيرة تصيب شبكة الكهرباء «بسبب الضغط الكبير عليها، وفي ظل التقنين الذي تعانيه المنطقة أصلاً». ومع الكهرباء يتقاسم العراسلة المياه مع النازحين، كما تم إطلاق خطة لاستيعاب الكميات الكبيرة من النفايات التي تنتج يومياً من المنازل والمخيمات.
تؤكد النازحة من قارة، فريال دبوسي، أن فضل أهالي عرسال «سيبقى ديناً في عنق السوريين بعد عودتهم إلى بلادهم بإذن الله». تعمل دبوسي في محل لبيع الألبسة يملكه سوري من قارة. تقول السيّدة الثلاثينيّة «ان العراسلة يقبلون على الشراء من محلها أكثر مما يقبلون على المحال الأخرى التي يمتلكها أبناء بلدتهم». تعطي هذا المثل لتؤكد عدم التمييز ضد السوريين في عرسال «رغم أننا نلاحظ الوضع الاقتصادي السيىء لأهل البلدة»، تضيف.
محمود الفليطي، واحد ممن استشعروا باكراً ضرورة الحوار بين السوريين وأهالي عرسال منعاً لحصول المشاكل وتفاقمها. قاد عبر تعاونية «المونة الريفية» جلسات «حل نزاعات» بين الطرفين. تم تقسيم عرسال إلى سبعة أحياء. جمعوا فعّاليات العراسلة والسوريين في كل حيّ مع بعضهم البعض، وحصل التداول في الهواجس والتحديات التي يفرضها النزوح على المجتمعات المضيفة.
يرى الفليطي أن المشروع عزز علاقات المودة بين الأهالي وضيوفهم. صاروا يزورون بعضهم البعض ويتحدثون عن هواجسهم ومشاكلهم المشتركة، «ولكننا لم نلمس في بداية النزوح مشاكل جدية».
يومها لم يكن عدد السوريين قد تجاوز العشرين ألف نسمة في عرسال. اليوم لم يعد ممكناً الحديث عن عدم وجود مشاكل. المشاكل موجودة طبعاً، ولكن المهم في الحالة العرسالية، أن البلدة وأهلها «لم يديروا ظهرهم للسوريين ولم يرفعوا الصوت يوماً للمطالبة بإقفال حدودهم في وجوههم».
ويفرض الاحتضان العرسالي للنازحين السوريين مسؤوليات أكبر على منظمات الإغاثة الدولية وعلى المجتمع المانح. لم يكن ثمة بطالة في عرسال قبل النزوح السوري. يعمل ناسها في الزراعة والمقالع والمرامل وفي بساتين الأشجار المثمرة التي استصلحوها في الأراضي الوعرة في الجرود. ومن لم يجد إلى المقالع والمرامل والبساتين سبيلا، كان يشتغل في قطاع نقل الحجر العرسالي الجميل الذين يزيّن معظم البيوت في مختلف المناطق اللبنانية.
مع قدوم هذا العدد الهائل من السوريين، وجد عدد كبير من العراسلة أنفسهم بلا عمل. يتقاضى العامل السوري نصف ما يتقاضاه اللبناني. فتح السوريون محال ومطاعم ومصالح، نافست مثيلاتها لدى أهالي البلدة، كما نصبوا «بسطات» للباعة المتجوّلين الذين يعرضون سلعاً وخضروات ويقصدون الأحياء والمنازل. ارتفعت قيمة الإيجارات ثلاثة أضعاف عما كانت عليه. ومع ذلك يتحدث أهالي البلدة عن هذه المنافسة، يتضايقون منها ويتذمّرون، ولكنهم، والحق يقال، لا يأتون بأي رد فعل.
يقول خالد البريدي، الذي أسكن نازحين سوريين في أرضه الجردية، أن العرسالي يشكو من قلة فرص العمل اليوم، ولكن ذلك لم ولن يمنعه من الوقوف مع النازح السوري على الصعيد الإنساني».
وبالإضافة الى البطالة التي تتفشى في عرسال اليوم، ومعها المشاكل في البنى التحتية على جميع الصعد، تشعر عرسال وأهلها، اضافة الى النازحين، أنهم مهددون بكارثة بيئية وصحية ستتفاقم مع بدء فصل الصيف. يعرف القاصي والداني أن لا شبكة صرف صحي فعليّة في عرسال. تعوم البلدة على حفر صحية تهدد مياهها الجوفية، ولم تعد هذه الحفر تستوعب مياه الصرف الصحي في المنازل. ولكن المشكلة الكبرى هي في «سواقي» الصرف الصحي التي تخرج من كل خيمة في نحو خمسين مخيماً موزعاً على كل الأراضي العرسالية. تفوح الروائح من المخيمات وتنتشر في الأحياء القريبة. ومع الروائح تنتشر الأمراض الصدرية والتنفسية سواء بين أهالي البلدة أو في صفوف النازحين. مشكلة لم تجد حتى اليوم من يضع حداً لها أو حتى يسعى الى معالجتها جدياً، وسط الكثافة السكانية الكبيرة مقارنة بالمساحة المسكونة.
ومع ذلك، ستجد أن «الشراكة» في الأعمال بين أهالي عرسال والسوريين قد حلت مكان أي رد فعل سلبي عملي. يشير عبد العزيز الفليطي، ابن عرسال، إلى مشاريع عمرانية تشاركية بين سوريين وعراسلة. كذلك في مشاريع زراعية وإنشاء مزارع للمواشي، بالإضافة إلى شراكات في المحال التجارية والمطاعم.
يعرف مختار عرسال عبد الحميد عز الدين أن عدد السوريين فاق الـ 120 الف نازح في البلدة التي تعاني خللاً في بناها التحتية أساساً. «ومع ذلك، لن تجد من يقوم برد فعل رافض لوجودهم واحتضانهم، فوقوفنا معهم إنساني بالدرجة الأولى»، وفق ما يؤكد.
يقول أهالي عرسال إنك تجد عرسالياً من بين كل تسعة أشخاص يعبرون الطريق، أما الباقون فسوريون. من بين كل خمس آليات ستجد آلية عرسالية واحدة. وبعضها، وهي كثيرة، لا تحمل أي لوحة تدل على هويتها.
ومن ضمن الآثار الاجتماعية للنازحين، تمّ إحصاء ما يزيد على نحو مئة حالة زواج من سوريات. فقبل نحو شهر،كان ثمة عشرون عروساً سورية في مقابل عروسين عرساليتين فقط. لم تقتصر ظاهرة الزواج من السوريات على بعض المتزوجين من أبناء عرسال «بل أصبح الشباب العراسلة يتزوجون بسوريات أيضاً في زواجهم الأول»، تقول صبيّة عرساليّة.
يرد محمد العلايلي، الذي تزوجت ابنته من رجل عرسالي، حالات الزواج إلى تاريخ العلاقة بين عرسال والمناطق السورية المحيطة بها «علاقات القربى بين أهل عرسال والسوريين ليست بجديدة»، يؤكد الرجل الذي نصب خيمته في أرض أبو ربيع العرسالي في صف الهوا على الطريق التي تؤدي إلى خربة داوود على حدود قارة السورية.
يقول العلايلي أن أبو ربيع لم يكتفِ بمنحهم قطعة أرض لإقامة خيمته، وخيمتين أخريين لجيرانه عليها، بل مد لهم قسطل مياه من بئر مزرعته، وسمح لهم بزراعة ما يريدون من خضروات تعينهم على مواجهة حاجات أبنائهم. ابن شقيق العلايلي نفسه، استحدث «محطة» جوالة لبيع وقود البنزين في الجرود «ثمة عابرون كثر في الجرود، ويبيع ابن شقيقي أكثر من ثلاث صفائح في اليوم، وهذا يعينه على تأمين مردود يساعده في تربية أطفاله».
حفيدة أبو ربيع فكرت بمساعدة الأطفال النازحين في الجرود على طريقتها. استحدثت صفاً دراسياً لهم وأخذت تعلمهم القراءة والكتابة «لأن لا مدارس في الجرود يذهبون إليها»، تقول آمنة التي أنهت دراستها الثانوية ولم تتمكن من الالتحاق بالجامعة بسبب عدم قدرة أهلها على إرسالها إلى زحلة أو بيروت.
لم يدفع العراسلة ثمن احتضانهم النازحين السوريين أعباء على الصعد الاجتماعية والإقتصادية والتربوية والحياتية والصحية فقط. هم دفعوا الثمن الأكبر في السياسة وفي العلاقة مع المناطق المحيطة بهم بسبب الانقسامات السياسية والمذهبية الحادة في البلاد. ومع ذلك لن تجد عرسالياً واحداً يطالب بإقفال الحدود أمامهم، بل ستجد من يشدد على ضرورة وضع حد لبعض التجاوزات، وطبعاً تسليم الأمن للجيش اللبناني الذي دخل عرسال بقوّة اخيراً، لتجنّب أي خلل أمني يزيد من عزلة البلدة ومعاناتها.