اختبار أن تكون نفسك والآخر... وصورة عن ذلك المتخيّل - محطات سورية في لبنانيّتي

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 14 7 دقائق للقراءة
اختبار أن تكون نفسك والآخر... وصورة عن ذلك المتخيّل - محطات سورية في لبنانيّتي
(تصوير: بيسان الشيخ) عربة مشاوي و"كبة حلبية" في منطقة الشيخ مقصود في حلب
في ما يلي ثلاث محطات من التجارب الشخصية في العلاقة اللبنانية - السورية حيث شكّلت الأخيرة جزءاً أصيلاً من هوية الأولى. ثلاث قصص هي جزء يسير من محطات كثيرة، ولا تختصر العلاقة، لكنها تقدم نافذة على تشابك المسارات الكبرى مع تلك الفردية والحميمة. وعليه، فللقارئ أن يطالعها بترتيبها المعروض، أو أن «يشقلبها» بشيء من الخفّة والتسامح الذي تتيحه تلك العلاقة المتينة رغم كل شيء.
كان عمري قد تجاوز العاشرة بقليل عندما دخلت مع أمي إلى المحل الصغير في احدى أسواق دمشق القديمة، عسانا نجد «الشرشف الشامي الأصلي» الذي ألحّت علينا جدتي بأن نعود به. إنه ما يسمّى بعامية منطقتنا «الشرشف المجفّر» ربما لشيء فيه أقرب إلى التضاريس منه إلى الزخرفة. وهو على أي حال، مقتصد في الألوان والزركشة، كما أنه عمليّ وعلى قدر من السماكة بحيث يخدم غطاء للسرير نهاراً وللنائم ليلاً.
هدّدتنا جدتي بأن «ترمي للكلاب» أيّ شرشف يخالف طلبها، حذّرتنا من أن السوق أُغرقت ببضاعة مقلَّدة لبنانية ومصرية، لا تقارن أي منها بالصناعة الشامية. فتلك وحدها، برأي جدتي، هي الأصلية، والمتينة، والناعمة على الملمس في آن. وتستطرد بسرد الصناعات السورية «الأصلية» من سمن حموي وزعتر حلبي وحلو شامي وغيرها.
دخلنا أمي وأنا المحل متشبّعتين بتلك التوصيات فإذا بالتيار الكهربائي ينقطع فجأة. ارتبكت امي لما قد يعني ذلك من سوء طالع، فإذا بالتاجر يدعونا للدخول، ويشتم اللبنانيين «ولادين الكلب» لأن الكهرباء، بحسبه، تُقطع عن السوريين لتضيء كاباريهات بيروت.
ارتبكت أمي وهمّت بالخروج وعلى وجهها تلك التعابير التي تسبق معاقبتي حين أقدم على ما يغضبها. فرأيت نفسي أعود خطوتين إلى الخلف وأقول للبائع «عمّو.. نحنا لبنانيّي.. وما عنّا كهربا».
لا داعي طبعاً لسرد الحفاوة التي عاد الرجل واستقبلنا بها، فأغدق عليّ السكاكر وعلى أمي تخفيضات جعلتها تشتري أكثر مما تنوي من تلك البضاعة التي لا مثيل لها عندنا.
هكذا كانت سوريا كلها بالنسبة إلينا، نحن أبناء المناطق الحدودية. هي غطاء أصيل ومتين، يقينا الحر والبرد ولا ينافسه في حميميته شيء، بينما لبنان عندهم تختصره بيروت بصورة المدينة الصاخبة والماجنة.
وفيما بيروت تلك، وبقية المناطق اللبنانية، مُنعت عنا خلال الحرب، كانت حمص مدينتنا بعد طرابلس، نقود سياراتنا إليها، من دون إذن مسبق من الأهل أحياناً، فنعبر الحدود كمن يمرّ بأي حاجز لقوات «الردع» المنتشرة بكثرة في منطقتنا.
وفي زمن لم يتجاوز فيه بث تلفزيون لبنان نفق مدينة البترون، نشأنا كغيرنا من الأطفال السوريين على برامج التلفزيون السوري، وإعلاناته واستعراضاته العسكرية. وكنت إذا أردت إضحاك رفاقي أروح أقلّد نداء مذيع التعاونيات الزراعية فأردد بصوت جهوري «أخي الفلاح في محافظة دير الزور...»، أو «أخي المواطن في محافظة الحسكة...». وتنتابنا نوبة ضحك لا تقطعها إلاّ بداية حلقة جديدة من مسلسلات «غوار الطوشة».
تلك وغيرها تفاصيل لا يشاركني بها أبناء وبنات جيلي من مناطق لبنان الأخرى ومن زاملتهم في سنوات الدراسة الجامعية في كلية مسيحية فرانكوفونية. كانت لبنانيتي منقوصة، فأنا هناك أقرب إلى أن أكون «سورية» (والأسوأ بإسم فلسطيني!)، و«لبنانية» خالصة في سوريا. وكلما استجمعوا شجاعتهم وجاءوا لزيارتي في بلدتي الشمالية، أصعد بهم إلى الشرفة وأشير إلى هضبة قريبة وأقول بنبرة فرحة «هذه سوريا»، فيتوجسّون ويهبطون إلى حيث لبنان أقرب إليهم.
أما أنا، فقد استغرقني وقت غير وجيز لأدرك خشونة ذلك الغطاء «الأصلي والمتين» علينا نحن اللبنانيين، وأنه لا يكفي صاحبه... ما لم يكن دون العاشرة أو فوق الستين.
***
كان الطقس في اسطنبول قارساً عندما اتصلت بباسم أعلمه بقدومي وبرغبتي في لقائه. باسم شاب سوري من حلب، خرج منها وهو طفل مطلع الثمانينات بسبب انتماء عائلته لجماعة «الإخوان المسلمين»، وهو عاد وانضوى فيها بدوره، وبلغ موقعاً متقدماً قبل أن ينهي سنواته الثلاثين.
لا يعرف باسم من سوريا إلاّ ما حملته العائلة من أخبار وبعض الصور خلال إقامتها المتقطعة في اليمن والعراق. لكنه تعمّق في المقابل في قراءة تجربتها السياسية، وعاش بالتواتر مأساة الآباء في حماه وحلب، حتى يكاد يدمع كلما يأتي على ذكر تلك المجازر كأنه عاشها بنفسه.
عندما التقيت باسم للمرة الأولى عبر أصدقاء مشتركين، كان مضى على انطلاق الثورة السورية 6 أو 7 أشهر والأمل لا يزال كبيراً بأن يكون موعدنا المقبل في دمشق، أو هكذا بدا لي. كان لقاؤنا من ضمن مجموعة في مقهى فاخر مطل على ساحة «تقسيم». لم أحسب أن شاباً إخوانياً قد يجلس في مكان يقدم المشروبات الكحولية إلى جانب القهوة والحلويات من دون أن يبدي انزعاجاً، لكن في المقابل، كانت سحنته البيضاء «الشامية» تتلوّن بشيء من الخفر عندما تحدّق فيه احدانا وهي تخاطبه.
ومع تأجيل موعدنا الدمشقي إلى أجل غير مسمّى، تحوّلت اسطنبول وتركيا عموماً من انطاكية وغازي عنتاب ومخيمات كلس والريحانية وغيرها، محطة عمل دورية للقاء السوريين، وصار باسم بدوره موعداً ثابتاً بالنسبة إليّ وعوناً وثقةً في العمل. وكنت كلما رأيته، أجده وقد تمكن أكثر من معرفته بتركيا، وراح أخيراً يتعلّم لغتها، ويتابع شؤونها إلى جانب نشاطه السياسي المرتبط ببلده، عكس كثير من السوريين الذين أقاموا فيها أو في بلدي، لبنان.
وإذ رأى كثير من الأصدقاء السوريين واللبنانيين على السواء، في النموذج الذي يقدمه باسم من سلوك وأقوال دليلاً على «ازدواجية الاخوان ونفاقهم»، وجدت فيه باباً رحباً لمعرفة جزء من سوريا بقي طويلاً طيّ الكتمان.
والواقع أنني لم ألحظ متى نشأت تلك الثقة بيننا على اختلاف انتماءاتنا الفكرية والدينية والسياسية، خصوصاً مع ما يحمله كل منا من أحكام مسبقة عن الآخر. فأنا لبنانية غير متديّنة، وهو سوري إخواني!
لكني وفي كل مرة، كنت أجده مقبلاً على لقائي بقدر إقبالي على لقائه. هو يريد أن يعرف أكثر عن لبنان ووضع السوريين فيه، والخلافات السنية - الشيعية، كما أنتزع منه في المقابل روايات شخصية وعامة وأرقام أناس التقيتهم في ذلك الشتات، ومعلومات لم يبخل عليّ بها، سواء للنشر الفوري أم المؤجل.
هكذا كان الحديث دائماً يقودنا إلى شكل سوريا بعد الأسد، فأتهمه بمطامع «الإخوان» بحكم البلد وفرض الشريعة وابتلاع لبنان، فيمازحني هو في المقابل بأن يجعل على رأس أولوياته إذ ذاك، تشكيل جناح لـ«الأخوات العلمانيّات» يوكلني به.
 
 
 
 
 
***
في مطلع شباط 2013 التقيت ياسين عند معبر «باب السلامة» كي أعبر معه إلى «المناطق المحررة» في حلب وريفها. كنت قد تواصلت معه سابقاً عبر «الفايس» و«سكايب» ولم أقابله قط. بدأ اللقاء بإرباك لكونه افترض أنني سأكون برفقة زملاء أو فريق تصوير، فيما توقعت أنا في المقابل أن عائلته تقيم في البيت حيث سأمضي نحو أسبوعين. فوجئنا بأننا سنكون وحدنا في منزل في إحدى أكثر بلدات ريف حلب محافظة. تململ ياسين بداية، ولم يعرف كيف يخرج من هذه الورطة، لكن التراجع ما كان ممكناً عند هذه المرحلة. قال إنه فور وصولنا يجب إبلاغ «الضابطة الشرعية» بالموضوع لمزيد من الاطمئنان، عدا أننا بمطلق الأحوال يجب أن نخبرهم بوجودنا وعملنا، ونصحني بألاّ أنزع غطاء الرأس الذي كنت أصلاً متمسّكة به أكثر منه بسبب الصقيع.
بعد عناء الرحلة، توجهنا فوراً إلى مركز «الضابطة الشرعية»، وكانت تلك الهيئات بدأت تشقّ طريقها حديثاً إلى المناطق المحررة، وتفرض شيئاً من النظام على حياة السكان، لا يغيب عنه الطابع الإسلامي. لم يتوقف المسؤول كثيراً عند تفاصيل إقامتي، لكنه لم يطمئن لكوني لبنانية. هكذا وجدت نفسي متنازعة بين مرافق منزعج من جنسي، ومسؤول ممتعض من جنسيتي، فيما أنا بحاجة الى ثقتهما وحمايتهما معاً.
راح المسؤول يطعّم حديثه معي بآيات قرآنية، فأكمل بعضها معه، وأصمت عن أخرى، وقد فهمت من ذلك أنه كان يختبر ديانتي. أما ياسين الذي لم يتح له التعرف إليّ كثيراً، فكان مرتبكاً بدوره، وزاد ارتباكه حين راح يتلعثم ببعض الآيات، فبدا واضحاً أنه لا يعرفها. اغتاظ المسؤول وما عاد قادراً على ضبط نفسه، فسأل مزمجراً: «من الآخِر... إنتِ سنيّة أو شيعيّة؟». قلت له: «أفهم من سؤالك أنك تريد أن تعرف إن كنت مع الثورة أو ضدها؟ حسناً، لا داعي للخوف، فأنا أؤيد الثورة». لكن موقفي السياسي لم يكن كافياً لإقناعه، وكان لا بد من طائفة تمنح الثقة. لم يعجبني الأمر، ورحت أنظر إلى ياسين نظرات استجداء لإنقاذي. وعلى ما اختبرت لاحقاً، فإن «ياسينو» كما صرت أناديه، شاب ريفي طيّب وبسيط، وحيد لأمه بين أخوات إناث، ولا يملك من الحجّة أو النفوذ ما يسعفني. كل رصيده سمعة جيدة وشبكة علاقات وطيدة بين شباب الثورة الأوائل، هؤلاء المدنيين الحالمين الذين خرج معهم مطالباً بالحرية، وما زال يتمتع مثلهم ببعض الاحترام.
ولشدّة حيرة الشيخ المسؤول في طائفتي، راح يخبرني أنه خدم في قوات الردع في لبنان، ويسمّي مناطق ذات لون واحد مر بها، ليرى إن كنت من إحداها، ثم قرر استدعاء جندي سجين لديه من الطائفة العلوية، ليخبرني الأخير عن «حُسن المعاملة» التي يتلقاها.
بعد نحو ساعة من الاستجواب بلا طائل، وتأكيد ياسين أنه يأخذني على عاتقه وضمانته، استسلم المسؤول ومنحني الأمان، ورحّب بي صديقة للثورة.
كانت الخطة تقتضي بأن أعود إلى ريف حلب بعد بعضة أشهر، أي في نهاية صيف 2013 أو بداية الخريف. لكن «ياسينو» نفسه كان قد غادر بلدته وانضم إلى عائلته في غازي عنتاب بعدما قضى كثير ممن التقيناهم من ثوار وقادة كتائب، وبعدما أمسكت جبهة «النصرة» بزمام الأمور.
لقد جاءني صوته من تركيا حزيناً ليخبرني أن بلدته وجوارها ما عادت تتسع لمن هم "مثلنا".
A+
A-
share
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد