عندما غادر يامن «مساكن هنانو» في حلب كان في السابعة من عمره، «كِنت ولد» يقول. أما اليوم فهو في العاشرة «صرت رجال» يقول أيضاً مبتسماً ابتسامة عريضة تتوسط وجهه الأسمر الجميل.
قصة يامن جميلة: فيها الكثير من المآسي، الكثير من الأذى، الكثير من العنصرية، و... الكثير من الأمل.
في أشهر لجوئه الأولى، لم يعرف هو وعائلته المؤلّفة من أب وأم وثلاثة أخوة، شيئاً من العنصرية. لكن مع مرور الأيام، ارتفع عدد السوريين في لبنان، ومعه ارتفع خطاب لم يفهمه الطفل الحلبي في البداية. كان وهو يقطع الطريق يسمع شتائم بحق أمه. وعندما يصل إلى الدكان ليشتري علبة اللبنة يسأله صاحب المتجر: «إذا ما معك مصاري إمشي من هون». لم يكن يفهم. ثمّ علا الصوت. بات يُقال له: «سوري كلب»، وهو يلعب بالطابة مع أخيه. لكن والدة يامن كانت طيلة هذه الأسابيع تعلّمه كيف يقرأ، وكيف يكتب... تشتري له الكتب، والقصص الملوّنة من المال الذي تجمعه مع زوجها.
الأب دهّان في النهار، وبواب بقية اليوم، والأم تعمل في بيوت المبنى الذي يعيشان في غرفة صغيرة في مدخله. دخل يامن المدرسة الرسمية، فيما بقي إخوته في البيت. «معليش، كل سنة منفوّت ولد» كانت تقول أم يامن. وانقضى العام الدراسي، ويامن متفوّق. يمشي في مدخل المبنى حيث يسكنون، يردّد دروسه، ويعلّم شقيقه الأصغر كيف يكتب اسمه.
«أنا يامن... من مساكن هنانو في حلب. حلب يلّي بسوريا». يقول عندما يسأله أحدهم «شو إسمك». وهو لم يجد له مكاناً في المدرسة الرسمية هذه السنة. لا مكان للأطفال السوريين، قالوا لأمّه. لكنّ تفوّقه شفَع له. إحدى المدرّسات في المدرسة الرسمية توسطت له لدى عمتها الراهبة، التي تدير مدرسة خاصة صغيرة. وأخبرت عمّتها عن تفوّقه واجتهاده...
قبلت الراهبة، ودخل يامن المدرسة في ما يشبه المنحة المدرسية، ولا يزال متفوقاً. وتفوّقه أذهل المعلمات، والراهبات، كما أذهل رفاقه. أما زملاؤه في الصف فكانوا يسخرون من لهجته، يسخرون من كلمات لم يسمعوها من قبل. كان الطفل الحلبي يقول «أبوي» بدل «بابا». وكان يقول «شلون» بدل «كيف»... وهم أطفال ربما يسمعون يومياً في بيوتهم مطوّلات عن «السوريين الوقحين الذين احتلوا البلد».
كان يامن متفوقاً، منذ أول شهر في المدرسة أظهر تفوّقه. كان يحفظ كل دروسه، ويجيد الحساب، ويقرأ كثيراً. وصار مرجعاً بين رفاقه، وبين أولاد الجيران، يستعير منهم بعض الكتب ويقول لهم: «أريد أن أصبح طبيباً»، ليعالج الأطفال في سوريا. هو لا يحلم، «انا شاطر، وبكرا بجيب منحة من الجامعة الأميركية، وبعدين بسافر على أميركا، وبيصير معي جنسيّة، وباخد أبوي وأمي وخواتي، ومنعيش هونيك ببيت كبير، مع جنينة، متل جنينتنا بالبيت القديم».
لا يخجل يامن من بيته الصغير اليوم. البيت ـــ الغرفة يستقبل فيه رفيقين له من مدرسته الجديدة. وتنهمك الأم في تحضير الحلوى لرفيقَي ابنها، حتى لو اضطرت الى الاستدانة من المتجر المجاور الذي بات يعرف العائلة جيداً.
«يامن محظوظ» هكذا تقول أمه، وهكذا يقول أبوه. أما هو فيقول «أنا شاطر»، لا مكان للحظ بالنسبة إليه، فقصته منذ اللجوء وصولاً إلى بيروت خلت من أي «حظ». هو يعرف أنه مجتهد، لذلك لا يزال في المدرسة، ولذلك يحبّه رفاقه، ولذلك سيكبر ويصبح طبيباً.
يامن لا يريد الحديث في السياسة، من كل ما يجري في سوريا لا يعرف سوى «راح البيت». يخبر رفيقيه جورج وفادي عن بيته الذي كان هناك، عن الزرع الذي كان موجوداً، عن الورود التي كانت تهتم بها أمّه كل يوم، وعن الساحة الكبيرة قرب بيت جدّه. وعندما يسمع انتقاداً صغيراً، أو تعليقاً بشعاً، لم يعد يسكت، ولا يبتسم تلك الابتسامة الخائفة. وعندما يناديه أحدهم «يا سوري»، يجيب بتلقائيّة: «أنا مش «يا سوري»، انا «يامن»... من مساكن هنانو بحلب، حلب يلّي بسوريا». سوريا التي لا يذكر منها سوى البيت الجميل. سوريا هي فقط ذاك البيت الجميل.