كان هذا الشعور ينتاب المسافر السوري منذ لحظة دخوله إلى نقطة المصنع الحدوديّة. فالبيوت في لبنان ملوّنة، والمحال تحتوي على بضائع لا تراها في سوريا الإشتراكية، والأطعمة تُقدَّم بشكل أجمل، ووجوه الناس تضحك أكثر، ومنصات الصحف كانت أكثر ما يغريني.
قصدت بيروت وسكنت فيها صيف العام 2007. ولم أكن قد هربت من حرب أو اقتتال، كما غالبية اللاجئين السوريين اليوم، بل لأنني كنت واحداً من مجموعة صغيرة تسمِّي نفسها المعارضة السوريَّة.
لقد اعتقلت في سوريا لنشاط طلابي بسيط، كان البيروتيون ممن عرفتهم لاحقاً، يقومون به ويتناقشون في السياسة وهم يدخنون سجائر الحشيش من دون خوف أو قلق. كان ذلك بالنسبة إليَّ هو أعلى مستوى من الحرية يمكن للفرد أن يصل إليه. كنت حينها أشبَه بذلك اللاجئ الكوري الشمالي الذي وصل إلى الصين للمرة الأولى، وصاح: هذا بالتأكيد أكثر بلد حرّ في العالم!
كانت جلسة في "مقهى يونس" البيروتي لمناقشة موضوع سياسي عادي ترفاً لم أحلم به في دمشق المحبوسة بأسوارها. فبيروت ولبنان كانا في عينيَّ كل شيء: الحريّة الاجتماعيّة، والحريّة السياسيّة، وكل هذا لم أكن أعرفه في سوريا.
كنت أرى يومها أن أصدقائي اللبنانيين كثيرو الشكوى، فلا يعجبهم قدر الحرّية الذي يتمتعون به، ولم أدرك سبب اعتراضهم. كنت أعتبرهم مترفين، ولايقدِّرون نعمة أن تعيش في دولة حرّة، وفي مجتمع حرّ لا يحاسبك على اختلافك، ويحترم بجزء منه طاقات الأفراد واختلافاتهم.
كانت نظرة السوري إلى لبنان هي أنه كيان وليس وطناً، لكنني في بيروت عرفت العكس، ووجدت أنه بالرغم ممّا يسمّى انقساماً طائفياً، كانت هناك هويّة وطنية لبنانية متجذّرة أكثر من تلك الموجودة في سوريا، وكانت للبنانيين صفات مشتركة أكثر من تلك التي تجمع السوريين.
في لبنان رأيت للمرة الأولى أن مفهوم الوطن هو حينما يكون جزء كبير من أفراده متفقين على أنهم مختلفون. وجدت ذلك الوطن المفقود، الوطن الذي أستطيع به أن أعبّر عن الكثير من آرائي، وأن أمارس هواياتي من دون الخوف من نظام قمعي أو مجتمع ينبذ المختلف.
وجدتُ في لبنان حفنة من الشباب الثائرين الحالمين، يجتمعون علانية، يناقشون غضبهم من كلّ ما هو موجود في بلدهم، ويجدون في ذلك صلة وثيقة بما هو قائم في بلدي. ولم يطل الأمر حتى صرت واحداً منهم، كيف لا؟ ألَسنا "شعباً واحداً في دولتين"؟. حتى هذه العبارة التي لم تكن محبّبة إلى قلبي من قبل، صار لها نكهة جديدة ومعنى جديد حين رأيت نفسي واحداً من مجموعة تضع كل كلامها وسخريتها وتهكّمها في نشرة طلابيّة لا توفّر طرفاً سياسياً في لبنان، ولا نظام الحكم في أي دولة عربيّة، وتوزّع جهاراً نهاراً في مختلف جامعات بيروت والمناطق. باختصار، كنت أعيش بيروت الحلم.
اليوم تغيّرت الصورة، فأنا أعيش في أميركا منذ ست سنوات، والكثير من صفات لبنان لم تعد هي هي..
فحتى في أوج الاغتيالات التي استهدفت القياديين والمفكّرين اللبنانيين المعارضين للنظام السوري، كان هناك هامش للتعبير والحركة لدرجة جعلتني أرى في لبنان ذلك الوطن المخلّص. أما اليوم فالسوريون لم يأتوا إليه بحثاً عن وطن كما فعلتُ أنا من قبل، بل أتوا خوفاً من موت ومن قتل يوميّ، وليس لديهم أصدقاء كما كان لديَّ. السوري يشعر أنه مكروه سياسياً من فريق لبناني واسع، ومنبوذ عنصرياً من الفريق الآخر، علماً أننا كسوريين معارضين شعرنا آنذاك بنوع من الدلال من الفريق اللبناني المعارض للنظام السوري، والذي يتهمه بقتل قادته واحتلال بلده.
ومع أنني أعيش في بلد يُسمّى في مختلف أصقاع الأرض بـ"الحلم الأميركي"، ما زال للبنان في عينيّ رونق خاص على الرغم من كل التغيّرات السلبيّة الطارئة عليه.. وما زلت أرى فيه ما تقوله الرواية الدينيّة عن النبي يوسف.. ذلك البلد الجميل المختلف عن "إخوته"، وقد تطول عبوديّته، لكنه في النهاية سيخرج حراً، وسيبقى جميلاً.