حكاية مخرج سوري مع بيروت و«معمرجيّيها»

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 14 5 دقائق للقراءة
حكاية مخرج سوري مع بيروت و«معمرجيّيها»
(تصوير: طلال خوري)
«في 10-2-2013 وصلتُ إلى بيروت، بعدما هربت من الشام عبر الحدود السورية - اللبنانية. كانت هذه أول مرّة آتي فيها إلى هذه المدينة التي كنت أسمع عنها من الأغاني والشعر ومن أصدقاء لي كانوا يقصدونها ليمضوا فيها أيام عُطَلهم».
هكذا يروي زياد كلثوم بداية علاقته ببيروت، وهو مخرج سوري ترك مدينته حمص عند تخرّجه من المدرسة ليدرس السينما في روسيا، وعاد منها إلى الشام، وبقي ثماني سنوات هارباً من تأدية الخدمة العسكرية، ولم يكن قادراً بسبب ذلك على السفر خارج البلاد.
 
عن تلك المرحلة يقول: «هربت لأنني لم أكن أريد الانتماء إلى هذه المؤسسة، لم أكن قادراً على إدخال دمار نفسي إضافي إلى حياتي. وعيت على الحياة وأنا أسمع قصص الجيش المخيفة، ونوعية العقوبات فيه، وبشاعة التعاطي داخله. كنت أهرب من تمضية سنتين ونصف السنة من الرعب، من أن أقول سيدي طوال الوقت، بعدما كان الأب في المنزل سيدي، والأستاذ في المدرسة سيدي، والمدير سيدي، و«الزعوري» في الشارع سيدي. كنت أشعر وكأنه سيتم اغتصاب سنتين من حياتي، من المفترض أنهما ذروة الطاقة والإنتاج».
خلال سنوات الهروب من الخدمة، عمل زياد على مشاريع فنية مختلفة، وأنجز فيلمه الأول: «آي دل» أو «أيها القلب». ويتذكر: «عند مروري ذات يوم من «عين ديوار» إلى «كوباني» (في الشريط الحدودي السوري الشمالي)، سحرت بجمال الطبيعة وألوان القمح، وبعادات وثقافة الناس هناك، وقرّرت أن أصوّر حكايا الناس المعتَّم عليها في سوريا - إذ ممنوع تناول موضوع الأكراد وإيصال صوتهم - وأن أنقل أصوات مجموعة من النساء يحكين عن حياتهن ويعبّرن عن وجعهن بالموسيقى والغناء البكائي».
وبعدما استنفد كل خياراته ولم يعد لديه أي فرصة للهرب من الجيش، دخل زياد إلى المؤسسة العسكرية عام 2010، ويقول: «ما شجّعني وقتها أنه في العام ذاته، أُصدر عفو عن كل من تخلّف عن الالتحاق بالجيش سابقاً في حال التحق بعد صدوره، وخُفّضت الخدمة من سنتين ونصف السنة إلى سنة ونصف السنة. إلتحقت عندها، واندلعت الثورة واحتفظوا بنا وألغوا التسريح، وأمضيت ثلاث سنوات في ما هربت منه طوال عمري. خلالها، رأيت كيف تُدكّ البيوت بالدبابات. وأنا الذي كنت ضدّ ما يحدث، أُجبرت على البقاء».
حيال هذا الضغط النفسي، «تحايل» زياد على الوضع علّه «لا يؤثر كثيراً» عليه: «هناك من كان يسعى إلى تربية وحش في داخل كل واحد منّا ويقوم بتغذيته. كنت أحاول قمعه، لأن إنسانيتي كانت لا تزال أقوى من هذا الوحش».
وقرّر توثيق المكان الذي كان فيه في المؤسسة العسكرية: «أنا سينمائي والأداة الوحيدة التي أعرف التعامل معها هي الكاميرا. أخذت أصوّر البشاعة المحيطة بي، الحيطان والألوان. لا يوجد حائط إلاّ وعليه 50 صورة لبشار الأسد، كنت مرغماً على البقاء محاطاً بها يومياً من السادسة صباحاً ولغاية الثانية بعد الظهر. كنت أذهب بعد الدوام للتصوير مع محمد ملص (مخرج سوري) في الفيلم الذي كان ينجزه في الشام. وكان عملي هذا بمثابة علاج لي رغم صعوبة الانتقال بين مكانين متناقضين. بين الصبح والمساء، كنت أشعر بتوازن وبانفصام في آن».
هرب زياد أخيراً من الجيش، وعن تجربته يقول: «هربت كي لا أتحول إلى قاتل، لم يعد لديّ خيار آخر»، وتخفّى ريثما أنهى فيلمه، «الرقيب الخالد». «لم أكن أريد الخروج من سوريا قبل أن أحكي عن جزء من التجربة التي عشتها».
أتى من بعدها إلى بيروت، محمّلاً بمشاهد الحرب وبمجزرتين قام بهما النظام السوري، مجزرة «التلبيسة» ومجزرة «اعتصام الساعة» في حمص. وبدأ البحث عن موضوع فيلم جديد، ليحافظ على توازن نفسي نسبي.
«عندما أمشي في بيروت، أتذكر الحرب، هي في كل مكان، في التماثيل وورش العمار والأبنية. ضجيج العمار والجبّالات وآلات الحفر هي السمة المسيطرة على المدينة. وعندما أرفع رأسي إلى السماء، أرى أشخاصاً في النهار «يتدندلون» من السماء، و«يتعمشقون» على البنايات، ويقفون على السقالات، وفي الليل، ينزلون من السماء إلى تحت الأرض. هنا كحفرة يعيش فيها 400 شخص. هم العمال السوريون، أساس عملية الإعمار، الذين لا يستغني عنهم أصحاب رأس المال لأنهم يحققون لهم شروط ربح لا توصف، وهم في الوقت ذاته محاصرون ومحاربون من المجتمع اللبناني».
ولّدت هذه المشاهدات أسئلة كثيرة عند زياد، وتساءل: «ما هي حكايا هؤلاء العمّال، هل هذا ما سيحصل في سوريا عند انتهاء الحرب؟ هل هكذا سيكون شكل البناء؟ هل سيترك العمال لبنان ويعودون إلى سوريا لتنفيذ عملية إعادة الإعمار؟».
وأصبح عنده رغبة أكبر بالتعرّف على تفاصيل حياتهم وتاريخهم: «نحن هاربون من الحرب ذاتها والبلد والخلفية ذاتها. ونظرتنا إلى بيروت تتشابه أيضاً. فهذه المدينة التي خسرت فيها أحباباً وأصدقاء، والتي، بسبب قسوتها وصعوبة الحياة فيها ومتطلباتها الكبيرة، أفرغتني مما تبقى لديّ من طاقة، وأخرجت الوحش الذي كان بداخلي ومعه كل العنف المكبوت والذكريات الأليمة. دوّختني بيروت. أراها تدور كما تدور الجبّالة حول النقطة ذاتها».
أراد زياد تصوير فيلم انطباعي عن العمّال وعن حياته في بيروت التي أتى إليها لاجئاً فجمعته بهم، «من دون تسوّل عواطف أو بكائيات».
فبالرغم من قساوة حياة هذا العامل الذي صوّر تفاصيلها، رأى فيه نموذجاً عن الإنسان الذي لا يتوقف عن العمل: «هو يعمّر بلداً، وفي الوقت ذاته بلده يُدمّر. كان مُهاناً في بلده من النظام وهو اليوم مُهان من المجتمع اللبناني. يهرب من خوف إلى خوف لكنه يستمر. يحفر في الباطون، ينحت في الصخر، يشيّد هو ورفاقه بناية من 35 طابقاً وعندما ينتهي من بنائها، ينتقل إلى ورشة ثانية، ليحفر جورة وأساسات جديدة. يعمل 30 يوماً في الشهر ليتمكّن من إرسال المال إلى عائلته، متمنياً أن تكون الحياة أرحم مع إبنه، وأن لا يصبح معمرجياً مثله. وهو الذي سيبني سوريا في المستقبل».
وصف زياد بيروت بأنها كانت «مرآة» له. هو الهارب من حرب، تماهى مع أبنيتها المهدّمة والمحروقة والمخردقة، لكنه في الوقت ذاته، أخذ قوّة الروح والإصرار من العامل السوري، الذي يعمّر ويعمل من دون توقّف: «في لحظة ما، لم أعد أريد أن أكون تلك البناية المخردقة، المتروكة آثار الحرب في داخلها من دون ترميم، بل تلك التي يبنيها العامل. هو يعمّر، وأنا أيضاً سأعمّر على طريقتي».
أنجز المخرج السوري تصوير فيلمه الطويل الثالث، «ديك بيروت»، وغادر هذه المدينة، منتقلاً إلى محطّة أخرى وبداية جديدة، كما العامل السوري، بالرغم من وطأة الأحمال.
A+
A-
share
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
01 كانون الأول 2014
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد