قصصنا في الحرب... وعنها

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 نيسان 17 17 دقيقة للقراءة
قصصنا في الحرب... وعنها
© كارل حلال
هل عايشت الحرب الأهلية في لبنان؟ هل عايشت الحرب وما زلت تعايشها في سوريا؟ أسئلة طرحها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ضمن إطار دعوة للكتابة عن قصص الحرب تم الإعلان عنها على مواقع التواصل الإجتماعي التابعة للبرنامج. وقد تم تسلُّم العديد من القصص بناء على جملة من الشروط أبرزها أن تناقش مواضيع تعكس تجربة شخصية في الملجأ، أو تجربة الإختباء من القصف في المنزل، أو تجربة شخصية عن الهروب. في ما يلي ما تم اختياره من قصص:
شظايا الذاكرة
عائشة يكن
ليس من عادتي أن أكتب بالعامية.. ولكن ذكريات الحرب أعادتني إلى أعماق طفولة مبعثرة لم أعرف التعبير عنها بلغة فصيحة.
مين هنّ؟ ومين نحنا؟ حدا يقلّي مين..
وين كانوا؟ وين صرنا؟ ولوين مكمّلين؟
نحنا ولاد الحرب.. وهنّ ولاد مين؟
كيف كنا؟ كيف صرنا؟ كيف قطَعنا؟ ما عرفنا؟
ليش ماتوا؟ ليش عشنا؟ مين هنّ؟ مين نحنا؟
هنّ راحوا.. ليش بقينا؟ نحنا جيل الحرب..
هيك سمّونا.. هيك ربّونا.. هيك كبرنا..
وبعدنا جيل الحرب..
أي حرب؟ وليش الحرب؟ مين بدو الحرب؟
حدا يقلي مين..
«بابا بابا.. كيف جارنا صار عدونا؟ وانقطعت الزيارات..
إذا نحنا غلطنا سامحونا.. ورجعولنا البسكليتات..
خلونا نلعب سوا ونكمّل الحكايات..
خلونا نشيل المتاريس ونلعب بالحارات..».
بوم بوم بوم
«ماما اركضوا.. ماما اهربوا
ابعدوا عن الشبابيك..
اوعا تقرّبوا.. تخبّوا تخبّوا واحتموا بالعواميد»
الرصاص عم ينزل متل الشتي
الرصاص عم يفوت على البيوت..
رصاص طايش.. رصاص مش طايش..
والصواريخ طالعة نازلة
مش عم ترحم حدا..
بنايات عم تتخردق
بنايات عم تندك..
كلو بيصيب.. كلو بيقتل..
كلو بيدمّر.. كلو بيحرق..
وبعدين معكم بعدين؟
خلّوني نام.. خلّوني أكبر.. خلّوني عيش بأمان
بدّي نطّ.. بدّي ألعب.. بدّي إحلم بالسلام»..
«ماما شو هيدي الأصوات؟
ليش فارشين بالكوريدورات
ليش الإزاز عم يتكسّر؟
والحيطان عم ترجّ»
بوم بوم بوم
«ماما ابعدوا.. ماما ارجعوا.. ماما فوتوا عن البلكون
تخبّوا تخبّوا من القذايف يلي عم تخرق الحيطان..
شو عملتي يا مجنونة؟ وين طلعتي؟
وكل إخواتك مخبايين».
«ماما، فستاني خفت عليه من الشظايا
يلي عم تنزل على البلاكين..
بدي ألبسو العيد الجايي..
وإفرح فيه مع الجيران».
«شايفة الرصاص متل الشتي والصواريخ متل النار..
أي عيد وأي دني خلينا لبكرا نعيش..
ونشكر ربنا عهالنعمة كل ما شفنا نهار جديد».
بوم بوم بوم
«تيتا تيتا خبّيني بحضنك خلّيني حسّ بالأمان
حكيلي قصة لا قنابل فيها ولا بواريد..
إذا بتعرفي حكاية أبطالها عاشوا بسلام
خلّيني إحلم.. خلّيني بحضنك.. ابني الوطن من جديد».
بوم بوم بوم
مين مات؟ مين تصوّب؟ القرعة يا ترى ع مين؟
مين دَورو اليوم؟ اسألوا جارنا أبو أمين..
فاتح دفتر عم يسجّل كل ما مات حلم جديد..
وهيدا سجل المفقودين، صاروا اوراقو مليانين..
مقتولين.. مفقودين.. مهجّرين.. ومهاجرين..
حرب مع مين؟ وكرمال مين؟ حدا يقلّي مين!
قالوا هيدي حرب أهلية..
بابا شو يعني حرب أهلية؟
أي أهل بيعملوا حرب؟ أي أهل بيقتلوا ولادُن؟
ليش الأهل بيعملوا حرب؟ ليش الأهل بدمّروا بلادُن؟
هيدي مش حرب أهلية.. هيدي حرب همجية..
خلّوا الأهل يوقفوا الحرب.. خلّوا الأهل يعمروا بلادُن..
نحنا متنا بهالحرب وما حدا عرفنا..
نحنا ضعنا بهالحرب ولا حدا لقانا..
نحنا عشنا سنين الحرب ولا حدا سألنا..
كيف ربينا بعد الحرب؟ ما حدا جاوبنا
قال نحنا جيل الحرب!
لأ هيدا مش صحيح
نحنا جيل السلام..
بس أيّا سلام؟
السلام لـ الله
❊ ❊ ❊
ذاكرتنا
راغد عاصي
إنها الذاكرة تخوننا من جديد. حتى دموع الفراق نسيناها.
هل من أسرة لم ينلها نصيبها من الفراق؟
هل من أحد لم يُفجع بقريب أو حبيب؟
هل من مدينة لم يدكّها الحقد الأعمى؟
هل من قرية لم تبكِ على أبنائها؟
هل من شارع لم يشهد قتالاً ساذجاً بين أخوة ضالّين؟
كيف ننسى؟
كيف نمحو سبعة عشر عاماً من جنونٍ وقتالٍ أحمق أدّى إلى الخراب والهجرة والموت، وإلى ما اعتقدنا أنه إقرار من الجميع بأن الوطن للجميع، ولا أحد ينتصر على أحد بل الكل ينهزم عندما يُرفع حدّ السيف بين أبناء الشعب الواحد؟
يا أيّتها الذاكرة، بالله عليكِ إرحمينا. بالله عليكِ ذكّرينا وأيقظينا، علَّنا نعود إلى رشدنا قبل فوات الأوان.
❊ ❊ ❊
الملجأ
عادل نصار
في باطن الليل داخل مستودع في أسفل إحدى بنايات خطوط التماس الشاطرة للعاصمة بيروت قسمين: واحداً شرقياً وآخر غربياً كانت عائلات كبيرة وكثيرة العدد تحتمي من القصف المتبادل بين أطراف النزاع والذي لا يهدأ ولا يستكين إلا ليلتقط المتحاربون أنفاسهم بعد أعمالهم الحربية المضنية، فينوب عنهم القناصون الذين يترصدون الأهالي الذين يستغلون فترات الهدوء النسبي لقضاء حاجاتهم من خارج ملاجئهم، فيعمدون إلى تصيدهم كلما كان الأمر متاحاً أو في متناول بنادقهم.
كان الوقت يجري بطيئاً بطيئاً، والملل يتسلل إلى أرواح اللاجئين بعدما نام الأطفال وخفَتَ ضوضاؤهم، حين تناهى إلى أسماع الساهرين منهم أنين خافت بدأ بالتصاعد تدريجياً ليأخذ شكل نحيب متقطع ما لبث أن تحول إلى بكاء، فدّب الذعر في المكان، وتحول النسوة وبعض الرجال يجوبون المكان بحثاً عن مصدر الصوت وسط جلبة ورائحة عفنة لا توصف جراء التزاحم وقلة الاغتسال والحرارة الزائدة في المكان.
وصلت إحدى الأمهات إلى مصدر الصوت ورمت بنفسها فوق مطلقهِ.. إنها ابنتها وقد أرادت إسكاتها ومعرفة سبب عويلها قبل معرفة الآخرين به، فمدت يدها تطبطب على جسد فتاتها وتهمس لها في أذنها أن اهدأي، وتسألها برفق عن المكروه الذي أصابها، فتقيأت الفتاة وتمتمت بعبارة واحدة كانت تكررها باستمرار: فضحت يا أماه.. فضحت يا أماه.. فدبّ الرعب في قلب الأم ووقفت مذهولة وواجمة، إلا أن هذا الوجوم دفع الفتاة إلى الإسراع في توضيح أسباب فضيحتها التي فسرتها بأنها ناجمة عن رائحة جسدها النتنة والتي زكمت أنفها ولم تعد تطيقها، وهذا ما اعاد الهدوء والسلام إلى قلب الأم والفتاة معاً.
❊ ❊ ❊
ربيع شبابنا توالى مع خريف الوطن
توفيق منافيخي
بعد مضي سنوات على الحرب في سوريا، حيث الموت منشورٌ في كل مكان، والرعب في الشارع وفي المدرسة وبين أزقة الأبنية، لم تعد تُفرق الحرب بين أطراف النزاع، والشعب جسر على كل الأجندات السياسية.
أصبحت معتاداً على أصوات التفجيرات، لن تخيفني بعد مرور ذاك الوقت على الدمار الهائل الذي عمّ أرجاء سوريا، كما اعتادت عيناي على مشاهد الدخان المتصاعد فلم تعودا تدمعان، وتأقلم جسدي الذي كان يهتز من صراخ أطفال الحي قبل سنوات الذعر، فأبى أن أرتجف خوفاً.
مقصف جامعتي في حلب، الوقت الذي دَرست فيه عائلتي والتي كانت تصف لي الجو العام بأنه مليء بالتسلية والمنافسة العلمية، والتبادل المعرفي، هذا المشهد لم أعد أتخيله، فقد أصبحت أعايش السنة الأولى في كلية الطب، أرى الأصدقاء ملتفين حول الطاولة، يشربون قهوة الصباح على ألحان فيروز تحت أشعة الشمس الدافئة.
انتهينا من إحدى المحاضرات المملة، عاودنا الجلوس كعادتنا، لنتسلى انتظاراً للمحاضرة التالية. كنا نتبادل الضحكات بملء أصواتنا، فأدمنت عقولنا الهمَّ؛ نفترض مستقبلاً لا يبعد عنا يومين أو ثلاثة لا أكثر على أمل تحقيق رغباتنا، بعد برهة من الوقت، يقدم بعض الشبان على زميل لهم بالقرب منا، وينشدون أغنيةً بمناسبة يوم ميلاده، أشعلوا الشموع في قالب (الكاتو) المتواضع، وراحوا يرقصون على أنغام الفرح، قاطعوا حديثنا الممل الذي لم تعد تقاطعه أصوات الرصاص والمدافع، لكن تلك اللحظة السعيدة لم تكتمل إذ إن قذيفة هاون هوت فأسكتت جميع من في الجامعة، محاضرين وطلاباً، أشجاراً وأحجاراً. لحظة صمت عارمة سادت في أرجاء المكان، ولولا أغنية فيروز لأحسسنا أننا صمتنا عمداً دفعة واحدة وكأننا على اتفاق مع العصافير!.
رحنا ننظر إلى وجوه كل منا، من دون أيّ كلمة، وكأننا نستمد القوة بتلك النظرات على الرغم من دقات قلوبنا التي تخفق خوفاً! لم يجف عرق جبيننا ولم يعد الدم ليجري في عروقنا حتى حدث ما لم نتوقع حدوثه، قذيفة أخرى على بعد أمتار قليلة من مكاننا!! فتكسر الزجاج بشظاياها، واجتاح الدخان المكان، وعلت أصوات النداء والصراخ بما لا يعلمون كلماته! نهضنا لإنقاذ أرواحنا، مسرعين مع حشد الطلاب الهاربين من المقصف، تركنا وأصدقائي الكتب والأقلام خلفنا كما أحلامنا وآمالنا، أسمع أصدقائي ينادونني ولا أستطيع رؤيتهم، وسط الزحام والدخان اندفعت خارجاً، وركضت مع الجميع لا أدري إلى أين اذهب. رأيت طالباً منهم فاتجهت نحوه، تداركت الصدمة المحيطة به، وسألته عن الآخرين فلم يستطع التحدث، وحتى الدموع في عينيه لم تتجرأ على أن تسيل، وقبل أن أشجعه على أن يتمالك نفسه فإذا بقذيفةٍ أخرى تمنيتها الأخيرة، هوت أمام عيني فسقطت بجانب صديقي على الأرض من دون أي حراك، ولم أعلم حينها إن كنت أصبت بجرح ما ولكنني كنت غير قادر على الحركة أو النطق...
نظرت حينها بصعوبة إلى السماء، والغيوم الملطخة بالدخان الأسود، شعرت بنسيم بارد يجتاح جسدي ولم تستطع أشعة الشمس إعادة الدفء الذي كنت أستمتع به قبل دقائق، نقلني السقوط إلى عالم آخر، وكأنني غادرت هذه الأرض.
لم أفهم ما حدث حقاً، واسترسلت لحظات بأفكاري شعرت بأنها ساعات، حتى أحسست بصديقي يجذبني من يدي وينادي الآخرين من أصدقائي، فنهضت مستغرباً، وتحركت وهو يقودني نحوهم حتى ارتميت في أحضانهم ثم غادرنا الجامعة على وقع خفقات القلوب الراجفة.
سأعيش ما تبقى من حياتي أجمع الكوابيس بدلاً من الذكريات، أسمع اصوات المدافع بدلاً من صوت فيروز منتظراً شمس سوريا في أيام كانون، وأسعى لأصدق أن ما لا يقتلك سيجعلك أقوى في هذه الحياة.
❊ ❊ ❊
حب على أسوار قلعتك
حسن جبقجي
ركضت بأقصى ما أملك من سرعة ووقع أقدامي تبعد الغبار عن طريقي... أتعثر بفوارع القذائف... التي ملأت المكان...
وقفت مشدوهاً إلى ذلك المكان الذي كان يبعد عني مئة ألف وردة حمراء، تركها على أبواب شرفتك الحزينة في ليل أيلول..
أغمضت عيني لأستحضر ظلك الضائع بين طرقات الحرب التي طالت لسنين وسنين...
مسحت عن عينيك الكبيرتين زجاجة خمر معتقة في شتاء بارد...
- أنت هنا...
لم تجب
- بحثت عنك طويلاً...
لم تجب أيضاً...
أمسكت ظل يدها وجريت بها بعيداً عن سوق المدينة...
ربما أني لم أعشق مثلك تلك الأحجار بعد.
قي تلك اللحظة كنت على وشك أن أهرب مقدار قلب جريح عن عشقي، فلم يكن لدي الجرأة للنظر إلى عينيك مرة أخرى...
لا أعرف ماذا أقول لأمي إذا فشلت في استرجاع حبيبتي...
وأنا أسترق النظر إلى مدينتي...
هل سأقول لها كنت أسرق أحجار المدينة...
أو استرق السمع كالنساء...!؟
هل تذكرين عندما دخلت القلعة من بابها الكبير وقلت لك:
تعالي نلعب لعبة الاختباء؟
كنت تهربين من قبلاتي الباردة في صيف تموز... تتسلقين أحجارها الكبيرة التي تفصلك عن قلبي مسافة شوق...
خمنت أخيراً أنك تختبئين في (حبس الدم) سميتها وقت سجن العشاق...
حطمت الحديد، كنت على وشك تحطيم قلبك الصغير الدافئ...
رأيت كل المدن في عينيك الواسعتين...
- تلك قلعتي وحياتي في فصولها ...
نتدلى على أسوار القلعة كطفلين ضائعين، والناس يحدّقون بنا...
فشلت في استرجاعك...
لم أتجرأ على دخول التاريخ أكثر...
أمي قالت لي: إرفع رأسك... فالإجابة عن الماضي تعني التنقيب في باطن الأرض..
تذكرت يوم امتحان التاريخ كنت أحاول (النقل) من صديقي محمد، يومها قلت له: فقط هذا السؤال...
تجاهلني...
قلت له: سنعلب معاً كرة القدم وبعدها سنذهب إلى محل سلورة* ونأكل مثلجات شهية..
بينما لبى محمد نداء صديقه بلغة كردية فهمت أنه يساعده (في النقل).
- تباً حتى أنت يا محمد لاتساعدني.
سأعتمد على بوغوص ... هو لماح...
نظرت نحوه كان مستغرقاً حتى أخمص قدميه...
لذلك رسبت بجدارة في مادة التاريخ وفي كل الفصول الدراسية ...
منذ مدة لم ألتق بهم، كل منهم عبر إلى قارة مختلفة...
هربوا من الظلال السوداء ليلتحقوا بضوء صغير ينمو كل يوم في عقولهم...
- ما أقسى الحياة وما أشهى أن نقاوم الموت والحياة دفعة واحدة.
والدي استشهد أمام الفرن وقد تلوّن الخبز بدمائه...
لذلك قرر أخي ألّا يبقى يوماً آخر في ذاك البيت...
أما أمي فأصبح البيت هم أطفالها...
- هنا ولدت وهنا أموت... لن أترك أولادي.
أشارت إلى غرف الدار...
عند القلعة... قريباً من (حبس الدم)
لاشيء هنا إلاّ رماد على الأرض...
لاشيء أفعله سوى النظر إلى السماء، أنتظر أن تشرق الشمس على حجارتها البيضاء.
المكان: قلعة حلب في مدينة حلب.
حبس الدم: سجن قديم موجود داخل قلعة حلب.
❊ ❊ ❊
مشواري الدراسي في حمص انتهى
ريم حسوا
تسارع مخيف للأحداث، آراء مختلفة هنا وهناك، تجمعات صغيرة وأخرى كبيرة، مناقشات حادة يغلب عليها الصوت العالي قد تصل إلى الشجار والبغض، وحتى نبذ الطرف الآخر وعدم التواصل معه نهائياً، رفض الحوار والنقاش، أو حتى الخوف من الإفصاح عن الآراء والأفكار التي تجول في الرأس.
كلها مظاهر جديدة طرأت على حياتنا فجأة، فهي لم تكن سائدة أو لم تكن بهذه الحدة على الأقل.
لقد غدت ممارسة الحياة بشكل طبيعي أمراً صعباً: إطلاق رصاص عشوائي يملأ السماء وبأوقات مختلفة ليلاً نهاراً، توتر يسود الأجواء بشكل عام.
ما زلت أذكر جيداً ذلك اليوم بينما أنا وصديقتي جالستان على مقعد في حديقة الكلية رغم الجو المضطرب والسماء الداكنة التي تنذر بهطول المطر، وإذ بي أسمع أصوات طلقات مستمرة من ناحية حارتي التي لا تبعد عن فناء الجامعة سوى بضع دقائق في السيارة، قلقت وتوترت وتبادر إلى ذهني الكثير من الأسئلة، ترى ماذا يحدث؟ ما سبب إطلاق النار هذا؟ أهلي إخوتي؟ هل هم بخير أم ماذا؟
كنا قد أنهينا دوامنا ومحاضراتنا لذلك اليوم، وما إن هدأت الأجواء بعد دقائق قررنا أنا وإياها العودة كل منا إلى منزلها، لم تتركني حتى استقليت تاكسي نحو حارتي.
ونحن في طريقنا، عاد الوضع إلى التأزم وأصوات الرصاص تتعالى أكثر وأكثر، فقرر الشوفير تغيير مساره بسرعة وأخذي من طريق خلفي خوفاً من أن نتعرض للطلقات إن بقينا على الشارع الرئيسي.
في هذه الدقائق القليلة أحسست بكل ثانية تمر عليّ وأنا في التاكسي لوحدي أشعر الخوف والتوتر، ومما زاد خوفي ربما حالة الشوفير الكبير في السن الذي كان قلقاً مضطرباً وهو يقود سيارته بسرعة ويميل ويناور من جهة إلى أخرى.
وأخيراً وصلنا فأخبرته أني أريد النزول في أول الشارع فأنزلني قائلاً:
تكرمي بس بسرعة «يلا» وتوجهت مسرعة إلى البيت، فلقد كان أغلب الرجال واقفين على أبواب منازلهم يترقبون ماذا سيحدث. ويتبادلون أطراف الحديث، دخلت المنزل، اطمأننت على أهلي فرداً فرداً، وهاتفت صديقتي أبلغها بوصولي، فلقد كان همها آنذاك أن أصل بخير رغم أنها معرضة أيضاً للخطر فهي في حارة مجاورة وملاصقة لحارتي ولكنها كانت ومازالت من النوع الذي يخاف على أصدقائه وتعتبر نفسها مسؤولة عنهم، كنت أعتبرها بمثابة أم لشلتنا المؤلفة من ٤ فتيات تربطنا علاقة وثيقة استمرت لسنوات ومازالت مستمرة حتى هذه الأيام والحمدللّه.
تكرر هذا المشهد كثيراً في الآونة الأخيرة حتى أصبح الذهاب إلى الجامعة أمراً صعباً ومحفوفاً بالخطر، وقد يعرضني للموت كبعض من الطلاب الذين لقوا حتفهم على باب الجامعة أو في داخلها، لذلك قررت وأهلي أن أتوقف عن الدوام ريثما يتغير الحال راجين الله أن يتغير إلى الأحسن.
لم أكن أدري في ذلك الوقت أن مشواري الدراسي والمعيشي في حمص قد انتهى...
عواصم الوطن
طارق شمس
عندما بدأت الطائرات الإسرائيلية بقصف مدينة النبطية في جنوب لبنان، وأخذت القذائف تتساقط على أحيائها عام 1978، أدرك الجميع أن اجتياحاً للعدو قد بدأ، خصوصاً مع اعلان انطلاق عملية الليطاني، عندها قررت العديد من العائلات الجنوبية الانتقال إلى المناطق الآمنة ومنها العاصمة بيروت...
كانت بيروت عام 1978 مقسّمة إلى منطقتين: شرقية وغربية، أذكر حينها أننا نزلنا بشقة تخص عمتي في منطقة رأس النبع في الجزء الغربي من العاصمة، ومن هذه الشقة كان يظهر مبنيان كبيران هما برج رزق وبرج أبي حمد الواقعان في بيروت الشرقية في الحي المجاور لنا والذي يعرف بحي الأشرفية.
بمجرد وصولنا تم تسجيلي في المدرسة الرسمية الابتدائية التي تقع في نفس الحي، ولم يطل الأمر حتى بدأت الاشتباكات العنيفة بين القوات السورية وحلفائها من الفلسطينيين وما يسمى بالقوى الوطنية من جهة، وحزب الكتائب اللبنانية ونمور الأحرار ومن معهم من جهة أخرى... فأحسسنا بأننا انتقلنا من جبهة إلى أخرى... ومن صراع إلى آخر... توزعت فيه جثث ضحايا القناصين على جانبي خطوط التماس في العاصمة التي شهدت في العام 1978 حرباً طاحنة بين البيروتين استمرت حوالي الخمسين يوماً... وطاول القنص شقتنا المستعارة من عمتي... حينها كنت أرتعب من رؤية برجي رزق وأبي حمد اللذين تنطلق منهما رصاصات القنص باتجاهنا... وكثيراً ما كنت أستيقظ ليلاً مذعوراً عندما يتراءى لي هذان البرجان في المنام... وفي ذاك العام استشهد زميلنا في الصف أحمد (9 سنوات)، وقيل لنا إن قذيفة هاون أصابته، وأخبرنا أحد الزملاء في الصف بأنه شاهد جثته وهي مقطعة...
طيلة الأعوام 1979 و1980 و1981 كنت أقصد مدرستي من خلال شوارع تحميها السواتر الترابية لتبعد عنا عين القناص الذي يريد اصطيادنا... كنت حينها أظن أن سكان بيروت الشرقية ليسوا بشراً مثلنا، قال لي زميل في الصف بأن لكل منهم ثلاث أقدام... عندها استعرت منظاراً كي أشاهد هؤلاء الذين يقتلوننا، ورحت أراقبهم من خلال الشقة المقابلة لنا في المبنى المجاور والتي كانت قد أصيبت بقذيفة وتشكلت فتحة واسعة في جدارها يظهر من خلالها الجزء الشرقي من بيروت...وأخذت أراقب تلك المنطقة... كم فرحت عندما شاهدت سيارات تمر... تشبه السيارات التي عندنا! ثم شاهدت امرأة تنشر غسيلها فأخذت أحدق بها مرتعباً... إنها تشبهنا لكن يصعب رؤية أقدامها الثلاث من هنا!
وفي اليوم التالي كان حديثي في المدرسة كيف شاهدت أهل بيروت الشرقية... وسألني زملائي بلهفة: كيف هي أشكالهم؟ فقلت لهم إنهم يشبهوننا كثيراً... فصمتوا...
بعد عدة سنوات، وتحديداً في العام 1983، فتحت «الحدود» بين البيروتين فحثثت الخطى نحو تلك الحدود كي أشاهد «الأشرفية» والمنطقة التي يسكنها القناص والناس المختلفون عنا... كنت مرتعباً وأراقب كل شيء... وكنت خائفاً حتى من ظلي، فقد يقتلونني أو يقطعونني، وحين وصلت إلى برج رزق أخذت أحدق به طويلاً، هذا هو البرج الذي كان يقتلنا ويرعبنا ها انا أقف بجانبه... وتقدمت نحو برج أبي حمد... أراقبه بدقة ثم تراجعت مسرعاً وقلبي يدق نحو بلادي: بيروت الغربية... دخلت الى متجرا للسكاكر قبل عبوري الحدود نحو وطني المدمر... دخلت متجراً في الأشرفية واشتريت بسكوتة ورحت أكلم البائع بخوف كي لا يكتشف حقيقتي... وعدت مسرعاً إلى منطقتي وأنا أتذوق بسكوتة من بلاد بيروت الشرقية!
❊ ❊ ❊
الحرب الأهلية كما رآها صبي في السادسة من عمره
وسيم قاطرجي
في يوم دراسة عادي، في العام 1989، كنت في السادسة من عمري أجلس في الصف في مدرسة مار يوسف في جبيل. فجأة، انقطع روتيني اليومي حين سمعت والدي مسرعاً في الرواق. وقف عند باب صفي، ممسكاً بأختي الكبرى بيدٍ وملوّحاً لي باليد الأخرى لكي أحمل أغراضي وألحق به بسرعة. كان مدير المرحلة الابتدائية يتبعه في حالة من الارتباك. لم أرَ الخوف في عينيه، فقد كنت سعيداً جداً للانصراف من الصف.
في طريقنا إلى المنزل، لم ينبَس أبي ببنت شفة، وعلى الرغم من أنه كان سائقاً رزيناً، فقد تخطى السرعة القصوى ذلك اليوم. ومع أنني بالكاد أتذكر أن الطرقات كانت خالية فعلياً، إلا أنني أتذكر بوضوح كيف عبرنا جسر الفيدار بسيارتنا «الفولز فاغن» القديمة بسرعة هائلة لدرجة أنني شعرت بأننا سوف نطير عن الجسر. وصلنا إلى المنزل في غمضة عين لنجد والدتي بانتظارنا بقلق عند المدخل.
ما أن توقفت السيارة حتى سمعنا أصواتاً عميقة لطلقات نارية؛ وراح أزيزها المرعب يعلو أكثر وأكثر لدرجة أنه لم تتسنّ لنا الفرصة لقول كلمة واحدة. إنزلقنا نزولاً على سلم خشبي أدّى بنا إلى الطابق تحت الأرض، وهناك اختبأنا نحن الأربعة في زاوية بمساحة مترين بمتر واحد بجوار الحمام. لا أتذكر أنه أتيحت لوالديّ الفرصة لإقفال المدخل الأساسي قبل نزولنا. مرت ساعات على جلوسنا هناك، فيما دويّ الرصاص والقذائف يخترق الهواء. لم نأكل ولم نشرب، لم نتجرأ حتى على دخول الحمام الذي كنا نجلس بجواره. إنتظرنا توقّف الرعب في نهاية ذلك اليوم... وكانت بقية تلك السنة أسوأ من ذلك، فأمضينا معظم وقتنا مختبئين في القبو. ومع ذلك، ففي ذلك اليوم بالتحديد، وعلى الرغم من أنني كنت لا أزال صبياً صغيراً، أدركت أننا نعيش في حالة حرب.
بعد سنوات عدة، سألت والديّ عن ذلك اليوم، محاوِلاً أن أفهم ما قد حصل حينها ولماذا. علمت أن والديّ كانا يجلسان في حديقتنا الأمامية التي تواجه الطريق الساحلي في بلدة حالات. وبما أن الطريق السريع كان مقطوعاً لأنه كان يستخدم كمطار عسكري، فإن الطريق الساحلي كان الصلة الرئيسية بين بيروت وطرابلس، وبالتالي فإنه كان مزدحماً عادةً. في ذلك اليوم، توقفت حركة المرور فجأة وبشكل كامل، ما أثار فضول والديّ، فأوقفا عاملاً كان يمر بسرعة وسألاه إن كان قد لاحظ وجود شيء في طريقه. أخبرهما أن الجيش اللبناني قطع الطريق في بلدة العقيبة المجاورة وكان يقوم بتعبئة عساكره ودبابته للتقدم نحو مدينة جبيل لمواجهة القوات اللبنانية. ذُعِر والداي عند سماع ذلك لأنني وأختي كنا في المدرسة في جبيل...
(نص مترجم من الإنكليزية)
❊ ❊ ❊
عقلي يخبرني عن الحرب
سميرة فاخوري
أمام صفحتي البيضاء، أتساءل ما إذا كانت الحرب التي دمّرت لبنان منذ العام 1975 قد انتهت فعلًا! وما إذا كنا نشعر بهدوء السلام في قلوبنا!
وينتفض عقلي فجأةً:
- هل تحاولين أن تسخري من نفسك؟ أو أن تقنعيني، أنا؟ عقلك؟!
- كلا، كلا! ... أنا أحاول أن أستعيد الأوضاع والأخطار التي عشناها، لكي أؤرّخها. أنت تعرف جيداً أن الأيام والأحداث كانت تتتالى، وكانت تبدو متشابهة، إنما يجب أن أبدأ من البداية. تلك الصدمة الحقيقية الأولى، في بلد كانت تجهل الغالبية فيه ما يحاك في الظلام. في قرية هادئة محمية منذ الأزل من قِبل ثكنة للجيش اللبناني... كان ذلك في العام 1976.
...ويأتي خبر يهزّنا: ترك الجيش المكان وانقسم. وتبِع الرعد وقعَ الصاعقة حالًا. «إبقوا مكانكم: سيمرّ موكب مدجّج بالسلاح في القرية لكي ينضم إلى غيره». مسلّح أجل. إنما ليس الجيش.
سيمرّ وحسب. إنما كلا. فقد تركوا وراءهم بعض الشبان والصغار، وقد أُطلِقَ عليهم النار، البعض منهم في الطرقات، والآخرون على عتبة منزلهم؛ أكثر من عشر جثث في هذا اليوم الأول من دورة مؤذية تغيّر الوجوه إنما تحتفظ بالقلب ذاته: التقسيم والمجزرة والرعب. وقد طال هذا الأمر...
طال.
لم أعد أذكر كم من الوقت... أياماً؟ أشهراً؟ سنين؟
هذا ما أحاول استعادته، عن طريق وضع التواريخ.
بدا الهرب وكأنه الخيار الوحيد. اليوم نطلق عليه اسم الهجرة.
إنما لم يكن هذا هو الحل الذي اخترناه: كيف نترك منازلنا الثلاثة على التلة؟
منزل أهلي حيث كانت أمي لا تزال تعيش، منزل أختي التي كانت قد نُفِيَت، مثلها مثل العديد غيرها، مع زوجها للعمل، منذ ما قبل «الحرب»، و...منزلنا نحن.
...وهكذا تمّ اتخاذ القرار: تأمين الأولاد في منزل في بيروت (يجب اختيار أهون الشَرَّيْن، أليس كذلك؟)، وتحويل مرآبنا إلى ملجأ، الأمر الذي أصبح سهلاً بعد سرقة سيارتنا. متى إذا؟ 1978؟ كلا. بداية الثمانينات، لنرى... إنما في العام 76 أيضاً. مع السيارة. حتماً! ليس بالأمر المهم، من دون شك. لقد أضحى كل هذا بعيداً.
في هذا المرآب إذاً، وهو فعلياً طابق أرضي إنما محمي من ثلاث جهات من الجبل، نجونا أنا وزوجي من القصف الجوي لجيش معادٍ يستهدف جيشاً معادياً آخر كان يخيّم أمامنا.
وقد نجونا من قنابل باخرة الحرب المهيبة الغربية إلى حدّ كبير والتي كانت تستهدف الأهداف ذاتها. 1983؟ 1984؟ يا للعجب.
وقد نجونا من الرعب. وقد حمينا منازلنا.
- ربما، يقول عقلي. إنما مقابل أي ثمن؟
واليوم أتساءل، هل قمنا أيضاً بحماية لبنان؟
لن أصغي إلى عقلي، فقلبي يخبرني أننا فعلنا.
A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد