«لا سلام من دون عدالة» العدالة الانتقالية في لبنان: مقاربة تنصف ضحايا الحرب والعنف السياسي وتعيد ثقة المواطنين بالدولة

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 نيسان 17 7 دقائق للقراءة
«لا سلام من دون عدالة» العدالة الانتقالية في لبنان: مقاربة تنصف ضحايا الحرب والعنف السياسي وتعيد ثقة المواطنين بالدولة
لا سلام من دون عدالة - © عمل للفنان التشكيلي الخطاط فادي العويد
لكي نتذكر حرب 1975 يجب أن تكون هذه الحرب قد انتهت. لكن هل انتهت حقاً؟ هل سكوت المدفع هو علامة السلام؟ وما هي مقومات السلام الحقيقي والدائم؟
من اللافت أننا نتذكر 13 نيسان 1975 كتاريخ البداية الرسمية لما يسمّى «الحرب الأهلية»، ولا نتذكر أو نحتفل بنهايتها، كما هي الحال مع مناسبات يجري الاحتفال بها في ذكرى انتهائها كالحرب العالمية الثانية عام 1945. لماذا لا نحتفل ببدء السلام بل ببدء الحرب؟ هل لأن لدى الكثيرين شعوراً بأنها لم تنتهِ حقاً وأنها مستمرة بوسائل وأدوات أخرى؟ فالحرب ما زالت حاضرة إن من خلال الخطب التحريضية والمعارك الطائفية-السياسية، أو من خلال الحروب الصغيرة. والحرب كأنها لم تنتهِ طالما نخاف أن تعود في كل لحظة ومن شبه المحظور التكلم عنها أو كتابتها. وهي كأنها لم تنتهِ طالما لم ندمجها في برامج تربوية وثقافية وتعليمية تروي وقائعها ونتائجها، وتتيح للأطفال والشباب فهم بلادهم من خلال تفكير تاريخي نقدي يساهم في تجنب تكرار العنف والأزمات، وبناء سلام حقيقي ودائم.
جيل لا يعرف من الحرب سوى اسمها
عندما أتواصل مع مجموعات من الطلاب خلال محاضراتي في المدارس والجامعات حول الحرب وأثرها على الناس والمجتمع، أُفاجأ بغالبية ساحقة لا تعرف عنها سوى اسمها، حيث لا تملك سوى أقلية صغيرة معلومات تاريخية صحيحة. معهم لا أتكلم فقط عن الماضي الذي عشته حين كنت في أعمارهم، أو الذي عرفه آباؤهم وأمهاتهم، بل عن العنف الذي يستمر والذي عايشوه وربما كانوا ضحيته هم أيضاً. ففي العقد الأخير عاش جيل الشباب حروباً قريبة أو بعيدة. يشاهدون الحرب في سورية منذ 2011 وتداعياتها من قتل وتهجير وإخفاء قسري وعنف مباشر امتد إلى بلدهم. ويتذكرون حرب 2006 التي تركت أثراً في عدد كبير منهم، ولم ينسوا بدءاً من 2005 مسلسل الاغتيالات والتفجيرات والنزاعات المسلحة الداخلية من بيروت إلى نهر البارد إلى طرابلس إلى عبرا. علينا أن نعترف: لم ننجح في حماية أولادنا من العنف السياسي، ولم تنجح مؤسسات الدولة في ضمان أمنهم وعدم تكرار انتهاكات حقوق الانسان.
من حقّ هذا الجيل أن يتساءل لماذا يتكرّر العنف ويستمر، ومن حقه أن يعرف أسباب هذا العنف، ومن حقه أيضاً أن تحميه دولته منه. نحاول كإخصائيين ومهنيين في مجالي بناء السلام والعدالة الانتقالية أن نفكر ونعمل من أجل توعية الشباب والمجتمع اللبناني إلى أهمية معالجة العنف السياسي من منظور إنساني وتربوي يساهم في وضع أسس صحيحة وصحية لسلام حقيقي ودائم.
لن نعود هنا إلى ظروف وضع اتفاق الطائف وما بعده الذي كتب عنه الكثير لكن سنحاول وضعه في سياق مفهوم العدالة الانتقالية التي ترتكز على آليات أو مبادرات تعطي الحيّز الأهم لضحايا العنف السياسي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في مرحلة الانتقال من الحرب إلى السلم أو في مرحلة التحوّل الديمقراطي من نظام استبدادي إلى دولة تحترم الحريات. بالإضافة إلى محاكمة المسؤولين الرئيسيين عن الانتهاكات تساهم الإجراءات غير الجنائية في إنصاف الضحايا منها لجان الحقيقة التي من شأنها المساهمة في الكشف عن الحقائق والاعتراف بمعاناتهم. فعكس المحاكمات التي يشارك فيها عدد قليل من الضحايا، تسمح لجان الحقيقة لأعداد كبيرة من الضحايا بالتعبير عن قصصهم وعذاباتهم والارتكابات التي مورست ضدهم. وغالباً ما توصي هذه اللجان بوضع برامج جبر الضرر الفردي كما الجماعي في حال تعرضت مجموعات أو قرى بأكملها للانتهاكات الجسيمة. كما تُعتبر مبادرات التذكّر وتخليد الذكرى والاعتذارات العلنية كشكل من أشكال الانصاف والاعتراف بالحقيقة ومعاناة الضحايا. ويُضاف إلى الإجراءات الأساسية في المرحلة الانتقالية الاصلاح المؤسساتي، القضاء والقطاع الأمني خصوصاً، وقد يشمل تعديل دستور البلد والقوانين لكي تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الانسان.
أي عدالة في لبنان؟
في العودة إلى لبنان، بعد 1990 لم تكن العدالة الانتقالية خيار حكومات «السلم الأهلي»، ولم تكن القيادات السياسية الحاكمة التي أفرزتها الحروب في وارد محاسبة نفسها أو الافصاح عن كل الحقيقة في كتب التاريخ أو تخليد ذكرى الحرب. فبينما يتذكر اللبنانيون 13 نيسان كتاريخ مشؤوم ويقوم المجتمع المدني ببعض مؤسساته بإحياء الذكرى «لكي لا تنعاد»، لا تزال الدولة اللبنانية ترفض اعتباره يوماً وطنياً للتذكر واستخلاص العبر. من هنا تداول تعبير «الامنيزيا» أو فقدان الذاكرة الرسمية التي صنعتها الطبقة السياسية في محاولة لشطب 15 سنة وأكثر – كي لا نستثني 15 سنة وصاية سورية وانتهاكاتها - من ذاكرة اللبنانيين ومنعها عن البرامج المدرسية. كما لم تتوقف الدولة بأجهزتها عن منع الأفلام ومراقبة الانتاج الفني المتمحور حول الحرب بحجة «المحافظة على السلم الأهلي»، وتفادي «النعرات الطائفية»، وما إلى هنالك من حجج غير مقنعة وغير مفيدة.
انتهت الحرب بتسوية سياسية – وليس باتفاقية سلام - بين القيادات الميلشياوية بمباركة عربية ودولية. تصالحوا في ما بينهم وسوّقوا للمقولة الخرافة «لا غالب ولا مغلوب» إذ، في الواقع، جزء من القوى التي اشتركت في الحرب خرجت خاسرة ومغلوبة. أسطورة أخرى من أساطير الحرب نرددها: «الكل مرتكبون والكل ضحايا». شعار طمس حقوق ضحايا الحرب وخصوصاً المفقودين وعائلاتهم، وبرّر العفو عن المرتكبين من خلال قانون «عفى عمّا مضى»، مع استثناءات صنّف فيه الضحايا ومّيز بينهم. فقانون العفو الذي تبناه عام 1991 نواب مجلس مشكوك في شرعيته، انتُخب عام 1972، استثنى الجرائم التي ارتكبت بحق القيادات السياسية والدينية والدبلوماسيين الأجانب والتي أحيلت إلى المجلس العدلي بينما عفى عن مرتكبي الجرائم بحق الناس العاديين. هكذا تمّ فرض «السلم الأهلي» على أنقاض العدالة والانصاف وحقوق الناس. بعد سنوات طويلة من المعاناة والحروب، لم يحاول اللبنانيون تحدي أو رفض التسوية - الصفقة والإجراءات اللاحقة المرتبطة بها. أرادوا فقط أن يصمت المدفع وأن يعيشوا حياة طبيعية وكريمة. تمّت مقايضة العدالة بسلم أهلي موعود وحكم القانون بوصاية نظام لا يحترم العدالة ولا حقوق الانسان، ومعها استمرت ثقافة الإفلات من العقاب من أعلى الهرم إلى أسفله.
نعود إلى العدالة الانتقالية كمقاربة أساسية لمواجهة عنف الماضي البعيد والقريب وبناء سلام حقيقي ودائم. في لبنان شكّل معالجة ملف المهجّرين خلال الحرب الإجراء الوحيد الذي قامت به الدولة من منظار جبر الضرر المادي، بإنشاء وزارة المهجرين وصندوق تعويضاتها. لكن نعرف جيداً أن العملية لم تكن على قدر توقعات عشرات آلاف ضحايا النزوح، إن من خلال عدم الاعتراف صراحة بمعاناتهم، أو من خلال موازاتهم بالمرتكبين المسؤولين مباشرة عن تهجيرهم وقتل عائلاتهم، أو أيضاً من خلال عملية مشبوهة شابها الفساد والمحسوبيات. حُكي عن العودة والمصالحة في قرى الجبل لكن لم يتكلم أحد عن الضحايا ومشاعرهم وحقوقهم بالانصاف والعدالة. أما قضية المفقودين فتبقى محورية في أي محاولة لبناء سلام حقيقي في لبنان. لكن هل الطبقة السياسية مستعدة لمعالجة جدية لهذه القضية ومنها من كان مسؤولاً خلال الحرب عن خطف واخفاء وتصفية الآلاف منهم؟ ما العمل إذاً لبناء سلام حقيقي ودائم في لبنان؟ وماذا يمكن أن تقدم إجراءات العدالة الانتقالية؟ وكيف يمكن الضغط على الدولة اللبنانية من أجل تبنيها ضمن سياساتها؟
في غياب الإرادة السياسية لمعالجة ملفات الحرب العالقة، قامت في السنوات الأخيرة جمعيات من المجتمع المدني بمبادرات من شأنها المساهمة في مواجهة الماضي، وتمحورت حول مشاريع ونشاطات تحيي ذاكرة الحرب وتشجع الحوار بين الأجيال والمصالحة. وركّز بعض منها على نشر الوعي وتحفيز المجتمع والضغط على الحكومات من أجل معالجة قضية المفقودين. ونُشرت العديد من التقارير والدراسات حول تداعيات الحرب منها من شدّد على أهمية معالجة آثارها من خلال العدالة الانتقالية. ففي عام 2014، وضع ائتلاف من جمعيات من المجتمع المدني وعدد من الأكاديميين، بدعم من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، مجموعة من التوصيات يمكن أن تشكل خارطة طريق ناجعة لمواجهة الماضي وإنصاف ضحايا العنف السياسي مما يتيح بناء أسس سليمة لمصالحة حقيقة بين الجماعات والأفراد، ومن ضمنهم الفلسطينيون والسوريون.
«لا سلام من دون عدالة» ليس شعاراً بل هو ممارسة ومسار اختارته أمم عرفت الحروب والاستبداد. المحاسبة الجنائية هي جزء أساسي من العدالة التي من شأنها الحؤول دون تكرار العنف والحروب، ووضع حدّ للإفلات من العقاب. لكن العدالة أيضاً هي في إنصاف ضحايا العنف السياسي وبشكل أساسي من لا يزال يعاني بشكل مستمر كعائلات المفقودين. والعدالة هي في إفساح المجال للجيل الجديد لمعرفة ما الذي حدث في بلده، ولماذا وذلك من خلال السماح للمؤرخين والتربويين بوضع برامج تربوية وتثقيفية متكاملة تدوّن الوقائع التاريخية للبنان، وتروي وتحترم ذاكرات الجماعات اللبنانية وغير اللبنانية التي تعيش على أرضه. والعدالة هي في وضع حدّ للتمييز بين المواطنين والمواطنات في لبنان، كما السماح لضيوفه اللاجئين بالعيش بكرامة وإنسانية لكي لا ينقادوا إلى الحقد والتطرف والعنف. والعدالة هي في تنمية المناطق المهمّشة والفقيرة وإصلاح مؤسسات الدولة وتطبيق حكم القانون من أجل استعادة المواطنين ثقتهم بها. وعند إحقاق العدل والانصاف، وعندها فقط، يمكن أن نتكلم عن سلام ويمكن أن نتعلم من الماضي لكي لا يتكرر، وأن نبني مستقبلاً آمناً ومستقراً لأبنائنا والأجيال المقبلة.

 https://www.ictj.org/sites/default/files/ICTJ-Lebanon-Recommendations-2014-AR.pdf


A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد