عند مراجعة تاريخ النزوح والذاكرة الجماعية للشعوب لا يكن ربط الحادثتين، فهما واقعتان مستقلتان تمامًا. لكن في الذاكرة الثقافيّة والروابط الإنسانيّة، يجمع التعاطف تجاه الآخرين والتضامن، هذين الرجلين رغم إنتمائهما إلى مراحل زمنيّة مختلفة: من القرن التاسع عشر حتّى القرن الحادي والعشرين؛ من جبال الألب الفرنسيّة وصولًا إلى ضواحي دمشق القديمة.
يحفل تاريخ الدراسات الثقافيّة بقضايا مماثلة لتلك القضيتين، وتتجذر أغلبها في المشهد الثقافي-الفكري وخاصّة من خلال التمثيل الإعلامي للحدث وكتابة ما نسميه «المسوّدات الأولى للتاريخ». فيما يتساءل البعض منا، ما الذي يثير سخط الرأيّ العام تجاه اللاجئين اليوم؟ ولماذا يتمّ تصويرهم وتمثيلهم إعلاميًا على كونهم تهديدًا للأمن القومي، عبئاً على الإقتصاد وسبباً للخوف لأنهم ينشرون الفقر والجريمة كما المرض؟
في الماضي حصدت التغطيات الإعلاميّة لقضايا اللاجئين في البلدان القائمة على حكم القانون والتي تتمتع بمستوى مرتفع نسبيًا من حريّة الرأي والتعبير على مستويات إستثنائيّة من التعاطف مع اللاجئين. وكان هذا متجذرًا في عمل مؤسّسات المجتمع الأهليّ من أجل نشر الوعي حول حاجاتهم وهم «يفرّون من الأنظمة القمعيّة» أو من «عنف عرقيّ وتطهير دينيّ أو عنصريّ» واستندت كلّ تلك التقارير إلى معاهدات وإتفاقيات دوليّة.
في حينه لم تعد رؤية واقع اللجوء تمامًا كما هي، ويتطلع الناس في أنحاء العالم إلى موضوع الهجرة بشكل مختلف.
صورة «آخر» مغاير عنا
بالعودة إلى لبنان، غالبًا ما ننسى تأثير الأحداث التاريخيّة المأسويّة التي حدثت منذ القرن التاسع عشر حتّى يومنا هذا ولا نتعمق كفايةً في البحث بتأثيرها الثقافي والإجتماعي على الشعوب. لذلك، أيّ تحليل للتمثيل الإعلاميّ لقضايا اللجوء، يجب أن يأخذ في الإعتبار موجات الهجرة العديدة وتأثيرها على تشكيل هويّة المجتمع اللبناني بشكل عام، ووسائل الإعلام بوجه خاص. فيما يبقى الأهمّ وهو البحث في واقع التلقيّ الإجتماعي لكلّ تلك الأحداث والهجرات في لبنان. مثال على ذلك أزمة قديمة-مستجدة هي النزوح الداخلي في البلاد خلال الحرب الأهليّة (1975-1990) والتي لم يتمّ حلّها بالكامل بعد نحو 30 عامًا على انتهاء الحرب.
وربما وجب هنا ملاحظة نهج الخطاب الإعلامي في لبنان وتفكيك لغته التي تتأرجح بين التأيّيد من دون شرح أسباب الدعم أو في عبر لغة متحيّزة تعكس صورًا ومعاني ضمنيّة مبطّنة. لذلك نسأل هل تساهم وسائل الإعلام في تشكيل رأي عام داعم أو ربما مناهض للجوء؟ هل خطابها هو نتيجة للموروثات المجتمعيّة المتراكمة؟
يحتلّ إنتاج المعنى واللغة حيّزًا أساسيًا في نهج الدراسات النقديّة-الثقافيّة ومنها علم التواصل، حيث جمع المعنى واللغة يُسهم في خلق سلطة كما في بناء فكرة أو تشكيل لأفكار ولمنتج يخضع للـ«تناص»، أيّ عمليّة انبثاق نصّ من نصّ آخر وعمليّة فهم واقع ما من خلال واقع آخر. في قضايا اللجوء مثلًا يخضع التحليل إلى تأثير الأحداث السابقة والموروثات الثقافيّة التي تشكلّ الصورة والسرديّة الإعلاميّة. وبعيدًا عن تعميم رأينا على كافّة التغطيات، في حال حدوث خلّل ما على صعيد نظام اللّغة، يتمّ إنتاج صورة «آخر» مغاير عنا وقد لا «يبدو مثلنا» أو لا يشبهنا في ذهن المتلقي. هذه الدلالات الرمزيّة والتنميطيّة تصبح واقعًا عندما تنتشر بين الرأيّ العام، نتيجة استخدامها، تضمينها في النصوص وبثّها.
نحن نعامل مثل الأجانب
خلال الحرب الأهليّة في لبنان، استضاف والد ألبير قيومجيان أقاربه الأرمن - اللبنانيين في منزله في حلب. بينما يجد ألبير قيومجيان نفسه اليوم لاجئاً في لبنان يعيش في شقّة صغيرة مع أقربائه، كما ورد في مقال نشر باللّغة الإنكليزيّة في العام 2015 على موقع The Armenite «الأرمني» والذي حمل عنوان «بين الترقّب والبؤس: اللاجئون الأرمن السوريون في لبنان».(١) ونستشرف، وحسب ما قاله قيومجيان، الصعوبات التي يتعرض لها الأرمن القادمون من سوريا إلى لبنان، يقول: «قد لا يملكون المال حاليًا، لكننا لا نطلب الكثير. في المقابل نحن نعامل مثل الأجانب».
مع العلم أن الحضور الأرمني في لبنان هو من أحد أمثلة الإندماج الناجحة، فيما تُدرك قلّة قليلة من الناس أن الأرمن وصلوا إلى لبنان ضمن أربع موجات هجرة فريدة في التاريخ: ابتداءً من العام 1915 أيّ بعد الإبادة الجماعيّة التي تعرضوا لها خلال الحرب العالميّة الأولى؛ نقلت مجموعات من الأرمن من محافظة هاتاي في العام 1939 إلى بلدة عنجر البقاعيّة؛ موجات هجرة الأرمن-الفلسطينيين على أثر النكبة؛ أخيرًا وصول الأرمن السوريين من حلب كأغلبيّة ساحقة مع بدء الأزمة السورية الحاليّة.
وما يجدر ذكره أن التجربة الفلسطينية-الأرمنيّة في لبنان منذ العام 1948، متجذرّة ومتعدّدة المسارات، غير أن معظم الأرمن الفلسطينيين تأثرّوا أيضًا بتلك الصورة النمطيّة التي رافقت اللجوء الفلسطيني في لبنان. تلك التناقضات في التلقيّ وتكوين الصورة تتأطر في التباين الواضح لفكرة: «الأرمني الجيّد مقابل الفلسطيني السّيء». إذًا لماذا يُعامل ألبير قيومجيان مثل الـ«غريب»، هل هو إسقاط موروثات معيّنة أمّ لأنه مجرد نازح؟
منذ العام 2011، ومع تدفق أعداد اللاجئين السوريين إلى لبنان، تعاودنا تجارب الماضي من حروب وذاكرة هجرة ونزوح وكافّة المسارات والظواهر التي مرّرنا بها عبر خطاب إعلامي عالي النبرة في أغلب الأحيان، وعبر تغطيات إعلاميّة تُظهر لمن يحاول تفكيك خبايا حقلها المعرفيّ عبر مدلولات ثقافيّة لتحليل «سلطة» اللّغة ومعانيها كمرجعيّة لصيرورتها وصهر هويّة مقابل هويّة وتشكيل «الآخر»، عندها تصبح «عين الناظر» حاضرة في كلّ لحظة فتعيد تدفق بيانات الذاكرة كافّة في انتظام تام.
في مراجعة سريعة للتغطيات الإعلاميّة الخاصّة بالقصّص التي وصفت وجود اللاجئين كعبء إقتصادي كبير لا يمكن لبلد مثل لبنان تحمله، تبيّن لنا أنها استندت في معظمها إلى مصادر غير واضحة أو حتّى غير موثوقة. هذه الصورة السلبيّة هي معاكسة لأرقام قدمتها منظّمة العمل الدوليّة والأمّم المتحدّة والتي تذكر أن اللاجئين السوريين ينفقون نحو 1.5 مليار دولار سنويًا على السكن والغذاء والملبس وغيرها من الضروريات الحياتيّة.(٢)
في حين أن معظم المشاكل والأزمات التي واجهها لبنان خلال العقد الماضي على الأقلّ كانت إما نتيجة عدم كفاءة الإدارات الرسميّة في تنظيم شؤون البلد مثل غياب أو عدم تطبيق السياسات التنمويّة من جانب الحكومة المركزيّة، كما ترافق هذا الإهمال مع الأزمة العامة في منطقة الشرق الأوسط ومنها الحرب في سوريا.
أيّ وبخلاصة سريعة لا تُظهر الدراسات علاقة بين وجود اللاجئين في بلد معين مثل لبنان، وكثرة الأزمات الإقتصاديّة.
لنستعن بأهداف التنميّة المستدامة، وبخطة عمل «لن نترك أحد خلفنا»، نسأل ما هي السرديّات والقصّص التي تخلّف الإعلام عن تغطيتها؟ ما هو تأثير تاريخ الهجرات والنزوح على التغطيات؟ لنعد سؤال البداية مرّة أخرى: هل تساهم وسائل الإعلام في تغطية الحقائق وتؤثر فيها أمّ أن إنتاجها هو نتيجة واقع وموروثات ثقافيّة؟ أيّ أن الإعلام متلقٍ أيضًا لا فاعل؟ أين تكمن صور اللجوء في عين الناظر؟
لعل كلّ هذه الإجابات ليست حاضرة في أذهاننا وسنحتاج إلى المزيد من الوقت للعمل على فهمها. لكن قد يكون من المفيد البدء في الإعلام الذي يفيض تمثيلًا لقضايا اللجوء في مقابل إعلام يفتقر بثّه لواقع اللجوء عبر تغييّب التمثيل: في كلتا الحالتين النتيجة واحدة يختار المتلقي ما يتناسب مع حالته وفهمه للأمور من دون الحاجة إلى الغوص أكثر في معرفة الحقيقة. واقع التمثيل أو غيابه في الإعلام يؤدّي إلى ما يُسمى «إبادة رمزية» لكلّ ما لا يناسبنا أو «يشبهنا». إهمال الخطاب الإعلامي ولغته وعدم صقله، هو إهمال لفعل ولحركة، هو إهمال لشكل من أشكال الحياة وانتظامها.
لنتوقف هنا ولنسأل من جديد: ما هي معوقات الوصول إلى العدالة وتطبيق القانون؟ ما هو الميزان الأساسيّ لحقوق الإنسان وحريته؟ الجواب: التواصل، وفي غيابه لا مساواة، وإقصاء إجتماعي، و«آخر» مغاير عنا ولن يتوافق أبدًا مع تطلعاتنا.
(١) للمزيد من المعلومات يمكن قراءة المقال عبر الرابط الإلكتروني التالي: http://thearmenite.com/2015/01/anticipation-misery-syrian-armenian-refugees-lebanon
(٢) للمزيد من المعلومات يرجى مراجعة مقال بشير الخوري باللّغة الإنكليزيّة ضمن ملحق بناء السلام الصادر في 6 آب 2017 وتحت عنوان The Economic Benefits of the Massive Presence of Syrian Refugees