نظرية التطوّر

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 18 6 دقائق للقراءة
نظرية التطوّر
© عمل فني لعبدو صوما
انتقلت الى بيروت منذ ٣ سنوات، أذكر وقتها أن من حولي فوجئوا: «حدا بيترك مونتريال وبيجي ع بيروت!»، ظننت وقتها أن بيروت هي مدينة أحلامي وأن الخلطة بين الشرق والغرب هي ما ينقصني!. «وضّبي أمتعتك يا صغيرة، حان وقت الرحيل» - الفنانة: تمارا قدومي المخرج بابلو لوزانو لـ Tic Motion Studio©
الفترة التي وصلت فيها إلى هنا كانت فترة الحراك، وفي يوم ما دعاني أحد أصدقائي من الناشطين في المجتمع المدني في بيروت لكي أشارك معهم في التظاهرة. كنت فعلاً أرغب في المشاركة، لكنني تردّدت بدايةً، حيث تذكرت الفترة الأولى من الثورة السورية حين كان بعض الأشخاص يقولون إنّ الفلسطينيين المقيمين في سوريا لا يحق لهم المشاركة بالتظاهرات، فهم ليسوا سوريين! برأي هذا شنيع، فمن إذاً يحق له بالتظاهر أكثر من سكّان البلد؟.
سألت أصدقائي إذا كان من المقبول أن أشارك، فكان الجواب حاسماً: «أكيد عندك الحق! انتِ عايشة هون!».
في هذه اللحظة اقتنعت أن بيروت هي المدينة الأجمل -ما شاء الله- من قال إن الشعب اللبناني شعب عنصري؟
شاركت بالتظاهرة لسببين:
الأول لأن القضية تعنيني، والثاني لكي أشهد تظاهرة «طبيعية» – بـ«طبيعية» أعني خالية من العنف بشكل نسبي، أو بصورة أدق، لا رصاص حيّ على المتظاهرين.
وصلت إلى التظاهرة في داون تاون بيروت، أصابتني الدهشة وأنا أرى الشباب والصبايا بوجوه ملوّنة بعلم لبنان، يرتدين الشورتات القصيرة والـ mini jupes، أردتُ أن أبكي!. طبعاً ليست مشكلتي في ثياب المتظاهرين، لكن لثياب التظاهرة بالنسبة إليّ مفهوم آخر!. فهي الثياب التي تسمح لي بالركض بأسرع طريقة، وكل قطعة ثياب لا تسمح لي بالتمرّغ على الأرض تنسف تلقائياً من الاحتمالات.
في هذه اللحظة تأكدت من قراري: نعم (يس) أريد البقاء في هذه المدينة!

بعدها بأشهر عدة، كنت أتجوّل في مول تجاري، وبينما كنت أبحث عن مقاسي من بنطال أعجبني، تهب بائعة لمساعدتي:
بساعدك بشي مدام؟
أي لو سمحتِ عندك قياس كذا وكذا…
آه! مش مبيّن عليكي سورية!
آه! ليش كيف شكلهن السورية؟
صمت ثقيل ومحاولات غريبة من قبلها لتبرير ما قالته لكنني لم أرغب في سماعها. الشيء الوحيد الذي تكرّر في رأسي هو درس التاريخ: «تأسس لبنان الكبير عام 1920، وأُقِرَّت الجمهورية اللبنانية عام 1926».
أي وفقاً لنظرية التطوّر، لم يمرّ وقت كاف يسمح بتغيّير شكل الإنسان السوري عن الإنسان اللبناني!

خرجت من المحل «مهزوز بدني»، ركبت سيارتي واتجهت الى الحمرا، وصلت هناك، لم أكن أعرف الطرقات جيداً حينها، وبينما كنت أقف على إشارة سير حمراء -سرعتي صفر- وكنت ألتفت إلى اليمين لأعرف في ما إذا كان مسموحاً الدخول بهذا الاتجاه، وإذ بامرأة تقطع الشارع وتقف أمام سيارتي في منتصف الطريق وتصرخ: «اتطلعي قدّامك يا بهلة»، ثم تلتف وتتجه نحو شباكي وتصرخ: «روحي ارجعي ع بلدك». فوجئت ولم أستطع الإجابة، لماذا؟ تذكّرت أنني كنت أقود سيارة والدي التي كتب على لوحتها «دمشق»، فعندما قرأت المرأة كلمة «دمشق» على لوحة السيارة، علمت فوراً أنني «بهلة».

«العنصرية المعاكسة»:
- اه شو لهجتك من وين؟.
- من سوريا.
-عم تمزحي أنا بحب السوريين كتير، أحلى عالم السوريين!.
صوتي الداخلي: لاء! أنا بعرف سوريين ما بينطاقوا!.

«العنصرية اليومية»:
جالسة في أحد البارات، فجأة وخلال الحديث مع أحدهم، ينتبه من لهجتي -الواضحة جداً- أنني من سوريا، يقترب مني وينظر في عيوني ويصرخ:
«شلووووووووونييييييييك، بعرف احكي سوووورييييييي منييييييح موووووووووووووووو».
وينتظر مني أن أضحك لهضامته! وأنا كل ما يدور في ذهني:
1 - «ليش عم تصرّخ؟».
2 - «اسمعني منيح، أنا عم احكي هيك شي؟ إذا أنا ما عم أحكي هيك، إنت شو عم تعمل؟» شو هالأصوات العشوائيّة؟.
3 - لا يوجد ما يُسمّى «اللهجة السورية»، فلنتفق أن سوريا كبيرة، وأن كل منطقة لها لهجة مختلفة، حبيبي ما فعلته للتوّ كان في أحسن الأحوال محاولة فاشلة لتقليد اللهجة الدمشقيّة.

كثيراً ما يدور الحديث التقليدي: «السوريين حرقوا دين البلد، أخدوا أشغالنا، الكهربا، الميّ… الخ». ثم فجأة يتذكر أحدهم أنني سورية، فينظر إليَّ وكأنه يمدحني:
- «بس إنتِ مش متلهُن، ما بتشبهيهُن».
- أنا (وقد اعتراني الغضب من هذه الجملة التافهة): «مين هنن يلّي ما بشبههم؟ أنا هنن ع فكرة! عن مين عم تحكي؟».

بعد أشهر عدة تأتي اللحظة القاضية. فقد قررنا أنا وأصدقائي قضاء يوم على المسبح في برمانا عند إحدى الصديقات. ما لم يكن في الحسبان هو ضجيج البناء حيث فوجئنا ببناء قيد الإنشاء مواجه للبيت. في النهاية، قررت صديقتي أن تسبح عارية، لكن صديقتي الأخرى قالت لي فجأة وهي تشير برأسها إلى البناء المواجه:
- «هلق بكونوا السورية روقوا عليها».
- لم أفهم للحظة ما قالته وفكرت: «ليش بدهن يروقوا عليها السورية؟، وشو عرفها إنو هالبناية سكانها سوريين؟، أصلاً البناية هلق عم تتعمّر!».
وفي هذه اللحظة استوعبت! فصرخت: «قصدك العمّال؟».
وكانت لحظة الذعر بيننا لأنها فوجئت هي حتى ممَ قالت، لم تكن أساساً منتبهة إلى الخلط بين المهنة والجنسية!.
أنا لم أفهم! في سوريا يوجد أطباء، محامون، عمّال… بطبيعة الأحوال كلنا سوريون، فتلقائياً أسمّي العامل «عاملاً»!.

بعدها بفترة جاءت صدمتي العُظمى:
في بيت أحد أصدقائي، تسألني صديقتي:
«شفتي وثائقي الحرب الأهلية اللبنانية؟».
«لأ».
«أي شوفيه بتصيري تعرفي السبب السياسي لعنصرية اللبنانيين تجاه السوريين».
«بس أنا بعرفه».
«آه أنا ما كنت بعرفه، كنت مفكرة لأنو السوريين أشكالهن سود وبشعين مدري كيف».
«وأنتِ كيف حاسّة أنكن إنتو بيض؟».
«لا لا ما هيك كان قصدي بس بلا بلا بلا….».
سألتُ نفسي أولاً، كلمة «سود» عن ماذا تعبّر؟ هل تعني وسخين؟ سمر؟ بشرتهم سوداء؟
طبعاً كل ما سبق غير مقبول، تابعت صديقتي بشرح مقصدها الذي أعرفه سلفاً، لكن أحد مشاكلي في تلك اللحظة كان الاستخدام العشوائي للكلمات!
تسمع صديقة والديها الحديث، وتتدخل:
- «لا السوري ما بتعرفيه من شكله»، وهنا أريد أن أنوّه أنها تتكلم عن «السوري» وكأنه من فصيلة أخرى: «تعرّف على دب الباندا - ناشيونال جيوغرافيك!».
تتابع: «السوري بتعرفيه من ريحته».
-أنا (صدمة أبدية): ريحته؟ (بصوت مرتفع)
شعرت هي من صوتي ووجهي بأن ما قالته غير مقبول، فاستدركت مبررةً:
- «عادي، يمكن من البهارات يلّي بياكلوها».
- فلنقف دقيقة صمت حداداً على الثقافة السياسية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية للمنطقة!.
- أنا: «أي بهارات؟ لدينا نفس المطبخ!».
وحاولت أن أشرح قليلاً عن تاريخ المنطقة وانفصال لبنان عن سوريا، لكنها لم تسمع أو لم تفهم، وتابعت حديثها:
- «عادي كل شعب إلو ريحة».
فقدتُ أعصابي في هذه اللحظة، يجب أن تصمتَ فوراً لأنّ كل كلمة إضافية ستؤدي الى تدهور الحديث أكثر فأكثر. حاولتُ أن أشرح لها كيف أنها تخلط ما بين الجنسية وألف مشكلة أخرى، فشعرت هي في هذه اللحظة بأن عليها أن تعتذر، لكنها اعتذرت بطريقة: «آسفة إذا الحقيقة بتجرح».

في هذه اللحظة فقدت الأمل فلا حياة لمن تنادي. المشكلة أننا في بلد توَّزع فيه المهن بحسب الجنسيّات، في بلد لا تسمح قوانينه لصاحب الجنسية السورية إلاّ بأن يكون عامل بناء في ظروف سيئة جداً تحت الشمس الحارقة، عندها حتماً سيتعرّق ويصبح أسمر البشرة، وحتماً لن تكون رائحته Bleu de Chanel!
A+
A-
share
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2018
01 كانون الأول 2018
01 كانون الأول 2018
01 كانون الأول 2018
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد