الإنجاب من سُنن الحياة وسرّ استمرارها وأمل أي زوجين وحقّهما. لكن هذا الاستمرار يقف على المحكّ والأمل يتلعثم منذ الصرخة الأولى للمولود الذي ينزل من بطن أمه في أرض غريبة لا بيت له فيها ولا بلد يحميه وأهله يعيشون تحت خط الفقر في غياب الرعاية الصحية والاجتماعية، ويفتقدون الى نظام الحماية الدولية، ويواجهون مشكلات قانونية في وثائق السفر وتسجيل الزواج والمواليد الجدد...
على عكس ما يشاع بأن اللاجئ السوري «مستوطن» ومرتاح ويتمنى البقاء طيلة حياته في لبنان، فهو يدرك تماماً أن هذا القدر ليس قدره وهو أجبر على عيش هذه الظروف القاسية التي أدخلته في نفق مظلم لمجرد أنه طالب بحريته ثم فرّ هرباً من البطش والقتل والجوع. وهو يعلم جيداً أن لبنان محطة انتظار ولو طالت. إنطلاقاً من هذه النقطة، يرفض عدد لا بأس به من اللاجئين السوريين إنجاب مزيد من الأطفال كي لا تتحوّل تلك الفرحة في ما بعد الى نكبة يدفع ثمنها ملائكة ليس ذنبهم إلاّ أنهم ولدوا في الشتات بلا مدارس ولا عمل.
آمنة وفاطمة ومنار ثلاثة نماذج من ضمن هذه الكتلة التي لا يتحدث عنها الاعلام اللبناني، ورفضت ألا يأكل أولادها الحصرم ويولدون في بلاد هي محطة انتظار لا أحد يعرف متى يصل فيها القطار الى برّ الأمان.
عندما هربت آمنة (25 سنة) من ريف دمشق وزوجها أحمد وحماتها في العام 2011، كانت عروساً جديدة. كان بطنها مكوّراً أمامها وهي تعتصر الألم بين الحواجز العسكرية وتحت القصف كي تنجو بروحها وروح الجنين الذي تحمله. ذاقت آمنة العلقم خلال الولادة الأولى، التي لولا متطوعون في مخيم شاتيلا حيث كانت تسكن، لكانت ابنتها سلام ماتت في بطنها ضحية الفقر والعوز. فهي ولدت في مستشفى برج البراجنة للاجئين التابعة للأونروا بعدما رفضت مشافي بيروت كلها استقبالها لعدم توفّر المال.
«حاولتُ الانتحار أكثر من مرّة لأرتاح من عذاب القلق الذي يعتري فكري وجسدي، ولأخلّص جنيني من حياة العوز التي تنتظره، لكنني صمدت ونظّفت المنازل وتحمّلت إهانات الناس وزوجي معاً»، تحكي آمنة. وتتابع متنهدة: «تعذّبنا كثيراً قبل أن يجد زوجي عملاً، كنا نأكل ونشرب ما يجلبه لنا أولاد الحلال، وأحياناً كنا ننام والجوع يقرص بطوننا». وعندما «فرجت» كان يتقاضى أحمد مئتي ألف ليرة لإعالتنا. وبعد فترة، غضب أصحاب المبنى من الزوج وطردوه. «عدنا مرّة ثانية الى بيت الاقارب في شاتيلا الى أن عثر زوجي على عمل ثانٍ وحينها حبلت بطفلي الثاني»!
اضطروا للانتقال الى مخيم الدلهمية البقاعية حيث بدأت آمنة تعمل هناك مع إحدى الجمعيات في توزيع المأكل والملبس على اللاجئين الجدد. «في هذه الجمعية تعرفت الى سيدة كانت تجلس معنا بعدما ننتهي من توضيب الثياب وتعليب الطعام، وتنوّرنا في أمور حياتية لم نكن نفقه بها». لقد غيّرت هذه السيدة حياة آمنة التي قررت تناول حبوب منع الحمل كي لا تُنجب بعد اليوم، لأنها لا تملك مصاريف إدخال ولدين الى المدرسة بعدما صارت هي معيلة العائلة وترك زوجها العمل مجدداً». كان أحمد صعب المراس كما تصفه آمنة التي لا تنسى طعم ضربات حزامه وإهاناته لها «علناً أمام الخلق». مرّت سنة بعد ولادة محمد، ولم تحمل آمنة. فصارت حماتها وأمها تحلّلان أن الصبية مريضة ويجب عرضها على قابلة قانونية، بينما لعب الفأر في عبّ أحمد الذي خاف أن تكون ذكوريته في خطر. سأل زوجته: «هل تتناولين حبوب منع الحمل؟». خافت آمنة في البدء ونكرت، لكن سرعان ما اكتشف أمرها وضربها حتى فرّ الدم من أنفها. رفضت آمنة إنجاب طفل ثالث «لأنني لا أريد أن أنجب وأرمي أطفالي في الطرقات يستعطون ويتحرّش بهم القاصي والداني». لكن أحمد وأمه خيّرا آمنة إما أن تُنجب أو تُطلّق! احتارت وهي حزينة تضع نصب عينيها تعليم طفليها وتأمين المأكل واللبس والتدفئة اللازمة، «كي لا يموتوا كما مات غيرهم من البرد القارس في البقاع». لكن الزوج العزيز قرّر بعد سنتين من الاغتصاب الزوجي من دون إنجاب، أن يُخرج آمنة من العمل والطفلين من المدرسة «أنا لم أتعلم أنظري إليّ رجل قد الدنيا، سأعود الى سوريا واعمل هناك في الزراعة وسأعلمهم كيف يدرون المال من أرضهم»، هذا ما أراده أحمد بعد معاناة كبيرة قضتها آمنة تتحمل ضربه وتعنيفه. لكن بعد وساطات الأقارب وإخوان آمنة، رضي أحمد أن يترك لآمنة ابنتها سلام تربيها في لبنان على أن يعود برفقة أمه وابنه الى سوريا ويتزوج بإمرأة أخرى تُنجب له مزيداً من الاولاد. «هكذا دفعتُ ثمن قرار عدم الإنجاب مرّتين، بالطلاق وحرماني من ابني»، تقول آمنة والدمع ينهمر من عينيها.
أمثال آمنة يظلمهن مجتمعهن الضيّق، فإما يرضخن ويدخلن نظام الجماعة وإما يثرن ويربحن أنفسهم كما فعلت فاطمة (35 سنة) التي حملت قارورة الغاز لتُسقط عندما علمت أنها تحمل بطفل سيكون الرابع. وأوهمت عائلتها وجيرانها في مخيم المحمرة (شمال لبنان) أن حملها لم يثبُت في شهره الثاني، بالاتفاق مع زوجها حسام الذي كان يعمل مدرساً للرسم في سوريا قبل ان يثور على نظام البعث ويُعتقل ويُلاحق ويهرب الى لبنان. «لقد رزقنا الله بثلاثة أطفال، وأعطانا عقلاً لنفكر به»، تقول فاطمة التي كانت تعمل بائعة في محل أقمشة في حلب قبل ان تصبح عاطلة عن العمل في لبنان. ويتساءل زوجها «تسجيل الولد الواحد يكلّفنا في الدوائر الرسمية رقماً لا نستطيع دفعه، فكيف إذا فكّرنا بالحليب والتغذية ومصاريف المدرسة؟». ثم يضيف: «الله سيغفر لنا لأنه يعرف بحالنا نحن لن نضمن لهذا الطفل العيش بعد أسبوع ولا بلاد له الآن ولا جواز سفر، فهل نورّطه بحياة قاسية وظالمة كما ورّطنا أهلنا وورطنا 3 أولاد غيره؟».
لكن منار (19 سنة) المتزوجة منذ سنتين، اشترطت على أهلها وزوجها ألا تُنجب إلا بعد العودة الى ديارها في حمص. فهي لجأت الى لبنان وهي طفلة محشوّة ذكرياتها بالقتل بعدما قُتل أخوها أمامها من قبل مسلحين مجهولين، ومن يومها لا تنام جيداً. تلك الفتاة الجميلة التي أكملت تعليمها في إحدى المدارس الرسمية في صيدا (جنوب لبنان) حيث تعيش وأمها وأبيها وأخواتها الصغار، تعرف جيداً ما تريد. «تزوجت لأكمل نصف ديني، لكن الدين يأمرنا بميزان الأشياء وأنا لدي مشاريع كثيرة اليوم، أولاً أن أتخرّج من الجامعة حيث أدرس علم النفس، ثم أن أعود الى دياري ليترعرع أولادي هناك في كنف بيت شرعي يكون لهم الحق باللعب والنوم الهانئ والدفء، بينما هنا لا يمكنني حتى استئجار بيت لأنني أسكن مع أهل زوجي (9 أشخاص) في شقة صغيرة». ويوافق زوجها رامي الذي يعمل في تصليح الكهرباء على خطّتها، معتبراً أنه لا يريد لأطفاله أن يولدوا في العتمة كأنهم لقطاء. «سنعود قريباً الى سوريا ونبني حياة بعيدة عن الذل، فلن تطول الحرب أكثر من ذلك». وتختم منار «إما أن يولد إبني حرّاً أو لا يولد».