يوميّات البؤس السوري

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آذار 16 6 دقائق للقراءة
يوميّات البؤس السوري
© رسومات كريستال حلال
أهل البقاع لا يسمّون سكان المخيمات السورية لاجئين، السوريون في البقاع نازحون، أي مهجرين بفعل الحرب من مكان سكن إلى آخر ضمن حدود وطنهم. كان المجيء إلى البقاع بالنسبة إلى معظم النازحين، قبل الأزمة في سوريا، نزهة يومية، كذلك كان ذهاب البقاعيين إلى سوريا.
المخيمات السورية في البقاع سابقة للأزمة، فعمّال السهل أقاموا هناك مذ تكبّر اللبنانيون على العمل في أرضهم، ووجدوا في فقر السوريين وفاقتهم بديلاً.
بعد الأزمة، اتسعت رقعة المخيمات في البقاع، وصار عدد النازحين فيه، يفوق عدد سكانه، الخيم التي نبتت في كل بقعة فيه تكاد تنافس مواسمه الزراعية.
في أحد مخيمات بر الياس، استعاض مالك الأرض عن زراعة البطاطا، بزراعة الخيم، فالبدل الذي يتقاضاه من «الأمم» ثابت، مضمون، لا خسارات فيه، وموسم النزوح وفير، وإيجار الخيمة بمئة دولار أميركي، وكلما ألصق خيمة بأختها، استبشر خيراً بدوام الأزمة.
حتى النزوح طرفه مبلول بالطبقية فهناك مخيمات بؤس ومخيمات «كلاس»، كتلك التي أخذوا أنجيلينا جولي إليها، تشرح النازحة البائسة، وتتابع: «ألّلهم لا حسد، عندهم غرف مش خيم، لها حيطان وأسقف وأبواب، عندهم حمّامات مرتبة، ومدرسة للأولاد».
في مخيمات البؤس، الخيم ملاعب للريح في الشتاء، تهبط على رؤوس قاطنيها حين يشتد ندف الثلج، وفي الصيف تتحوّل إلى مخازن لحرارة الشمس، ولا تزورها الوفود المتضامنة. 
❊ ❊ ❊
حين وصلت أم عواد وأهل حارتها، إلى البقاع، تلقفتهم «المساعدات»، نصبوا لكل عائلة خيمة. وسط قطعة الأرض التي اتخذوها وطناً موقتاً لهم، على طرفها، شبه غرفة صغيرة من الباطون، يبدو أنها كانت تستعمل للعّدة، وافق الجميع على أن تسكن فيها أم عواد، نظراً الى كبر سنها وإلى الآلام التي يحركها صقيع البقاع في عظامها، لكن ليتها ما فعلت، تقول متهكّمة، فالغرفة بعد هبوط الليل تتحوّل إلى ملعب للفئران والجرذان. بداية حشت نوافذها بالخرق العتيقة والأواني، وسدّت بابها برفّاص سرير سحبته من المزبلة القريبة ولفّته بالشراشف، لكن قبل طلوع الضوء، كانت القوارض قد أتت على كل المتاريس، وعادت تسرح وتمرح في الغرفة، تجرّ الملاعق والأكواب، وتعبث بما تبقى من طعام. مع الأيام، تآلفت أم عواد مع «ضيوفها»، و«الضيوف» اعتادوها أيضاً. صارت تنام والقوارض تصحو، تتقافز من حولها، تشمشم قدميها وثيابها وتبتعد بهدوء.
❊ ❊ ❊
سلامة ليست امرأة فقط، سلامة وطن وشعب وتراب وزرع وحياة. عبارة «لا يأس مع الحياة»، تجسدها في ابتسامتها التي لا تنطفئ، في تفاؤلها الذي لا تفسير له، في الطاقة الإيجابية التي تبثها في نفسك، حين تجّك بيدك إلى زوايا الحياة في المخيم، حياة رتّبتها وقوننتها فأبدعت وعدلت.
هنا زاوية لصنع «الحرامات» بقايا كنزات صوفية عتيقة ممزّقة، تجمعها وتخيطها، وتصنع منها أغطية توزّعها على المحتاجين في المخيم. هنالك زاوية للخبز، موقد وصاج وكارة وألكان للعجين، وأكوام من الخشب والكرتون والعيدان للموقد، تفوح منها رائحة الخبز الشهّية، طيلة ساعات النهار. الخبز بالدور، برنامج يومي يوزع على ربّات الخيم. هن ربّات حقيقيات لأنهن ينهضن كل صباح ليصنعن من هذا اللاشيء حياة. هنالك زاوية للماعز والدجاج، زريبة وخم، يزينان طرف المخيم، ويجعلان العيش فيه ترفاً. ليس هيّناً أن تكون مشرّداً وتحظى كل صباح بكوب من الحليب الطازج أو بيضتين للفطور، جميل أن تتوقف المأساة لحظة ليعود للحياة طعمها العادي. 
منزعجة سلامة من الوزير اللبناني الذي اتهم النازحين بمفاقمة أزمة النفايات. وهي ترد: «نحن بالكاد نشبع، الجائع لا يخلف نفايات، النفايات قد تكون طعامه أحياناً».
❊ ❊ ❊
لا شيء يعذبني في المخيم كهذا البرد، تقول المحتالة الصغيرة. أستطيع أن أصبر على الجوع والغربة، أن أعيش بلا مدرسة، بلا ألعاب، لكن، لا يمكنني أن أتحمّل البرد.
في سوريا، كنت أحب الثلج، كنت أحسبه عيداً للأطفال، كنت أتوق لملامسته واللعب على بساطه الأبيض، لم أكن أعرف أنه بارد إلى هذا الحد، وأن بياضه يسوّد عيشتنا، ويجعل شفاهنا زرقاء، وأنوفنا حمراء، وقلوبنا بلا نبض. كنت مخطئة حين ظننت أني أحبه.
الثلج يشعرني بالعجز، وأن حياتي تستدعي الشفقة، وأني في حاجة إلى الكثير من المعاطف والكنزات والجوارب الصوفية والأحذية ذات الأعناق الطويلة التي لا يملك أهلي ثمنها الآن.
كانت المساعدات التي حملناها إلى المخيم ذلك اليوم، عبارة عن ثلاثة صناديق من الأحذية الشتوية للأطفال. نادى «الشاويش» على أطفال المخيم، وطلب منهم أن ينتظموا في ثلاثة صفوف. يقف الطفل أمامنا فنسجل اسمه وعمره ونمرة قدميه، نسلّمه حذاءه، ومعه أحياناً قبلة أو غمزة أو بسمة، فينتعله على الفور، ثم يقفل عائداً إلى خيمته.
وقفت المحتالة الصغيرة أمامي، طلبت أن تختار حذاءها بنفسها، فوافقت. لفتني أنها لم تنتعل حذاءها على الفور كما فعل غيرها، بل وضعته تحت إبطها وذهبت. استأنفت عملي، فإذا بي أراها تقف في الصف الثالث، وتدير وجهها إلى الجهة الأخرى كي لا يقع نظري عليها. اقتربت منها، فانهارت بالبكاء قبل أن أتفوّه بأي كلمة. سحبتها جانباً وأنا أعيب عليها فعلتها، كانت تنتحب وصوتها يتقطع وهي تقول لي: «أريد حذاء آخر، أكبر من الذي أخذته. لهذا الشتاء، حصلت اليوم، على واحد، من يضمن لي أن أحصل على ثانٍ، في الشتاء المقبل. ربما لن تعودوا مرة أخرى، ربما ستنسوننا، البرد لن ينسانا».
❊ ❊ ❊
بيتي في حوران على تواضعه، أحلى بيت في الدنيا، غرفة كبيرة تستند إليها غرفتان ضيّقتان كطفلتين تلتصقان بأمهما، وبهو واسع يحضنهن من كل الجهات، تدبّ في أرجائه مشاعر الرضا والقناعة، من أصوات شقيقاتي التي لا تهدأ، ورائحة المحاصيل الطازجة التي كان يرميها والدي عصر كل يوم عند عتبة الباب، وحركة أمي جيئة وذهاباً تبثّ فيه الحياة كما تنفخ الروح في جسد جنين.
كلما أويت إلى غرفتي السوداء هنا، ينتابي شوق إلى دفء جدرانه وأرضياته، إلى ملمس خشب أبوابه وشبابيكه العتيقة، إلى حبّات النارنج تضيء عتمة باحته كما نجوم سماء صيفيّة، إلى كركرة المياه في البركة الصغيرة وسط البهو، حين تنسى والدتي الحنفية مفتوحة، وتنهض جدتي تجرجر قدميها لتقفلها جيداً وهي تلعن الكنائن المهملات.
لم نزحت؟ أبي كان مزارع قمح، ولا أدري لماذا لم يزدنا عمله الكثير إلا فقراً، وجد في الثورة مكاناً لينفّس فيه عن غلبته وجوعنا، خرج مع من خرجوا في التظاهرات، لم تمنعه أمي، كانت أشد حماسة منه. مرت أيام معدودة على التظاهرة الأولى، جاءنا زوار الليل وسحبوه أمام أعيننا، وأعادوه بعد أيام في كيس أبيض، منتفخ الجثة مقطوع الرأس والأطراف، فدفنّاه في الحال، ونزحنا.
أعمل في تنظيف البيوت، شيء يشبه الألفة نما بيني وبين أبوابها التي أقرعها كل صباح، ربما لأن كلينا مقطوع من شجرة، ربما لأني مثلها أتقن فن الانتظار بصمت على الأعتاب. تحزنني البيوت التي أقصدها، نسائم الدفء التي تسرح فيها، تداخل أصوات الأطفال والأمهات والآباء بعضها ببعض، خصوصاً عند الصباح، رائحة الغسيل والطبخ وطقطقة الملاعق في كؤوس الشاي، تذكرني كم أنا نازحة وغريبة. 
مضى أربع سنوات على وجودي هنا، أظن أنها كافية لأفقد قدرتي على إيجاد الإجابات الملائمة لأسباب نزوحي، أحلم بالعودة إلى بلدي، وأحلم أيضاً بأن الآخرين الذين ذهبوا إليها قد عادوا منها إلى بلادهم. ربما أنا هنا لأنهم هناك. أتمنى لو أملك القليل من الجرأة لأنتفض بوجه من يتأفف من سماع لهجتي، ورؤية لون بشرتي، وأقول له: «إن عدتم عدنا».
 
A+
A-
share
آذار 2016
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد