وتدرك معاناة أهلها في منحها القليل من تلك الفرحة. فهم لا يملكون المال، ومحاصرون في مخيمهم، فإن خرج والدها منه فقد لا يعود لأن إقامته غير قانونية هنا. وإن خرجت والدتها فقد لا تتمكن من شراء الهدايا لها لغلاء ثمنها أو لما قد تتعرض له من مضايقات، وأكثر من ذلك، السوريون لا يمكنهم التجول بعد ساعة معينة. كل ذلك تعرفه ريم، بنت العاشرة، وتدرك أن هناك من يحاول منحها القليل من البهجة رغم كل شيء. لكنها لا تريد أياً من ذلك، تريد العودة إلى سوريا.
قالت كل ذلك، ثم أخذت الميكروفون، وسألت رفيقتها السؤال نفسه: هل أنت سعيدة اليوم؟ ترددت صديقتها بالإجابة. قالت لها ريم: لا تخافي، كلامك أنت لن يظهر على التلفاز.. قولي لي بقلبك.
❊ ❊ ❊
منذ أن بدأ السوريون بالنزوح إلى لبنان والهرب من الموت الذي يحيط بهم في بلدهم جراء اتساع رقعة العنف هناك، وهم محور اهتمام الإعلام. من النقاش إن كانوا نازحين أم لاجئين، إلى عددهم واحتياجاتهم، وكيفية استيعابهم، وضبط عملية دخولهم إلى لبنان، وبعدها التضييق عليهم في تنقلهم، والأوصاف التي صُبغوا بها، والادعاءات عن مدى تأثيرهم سلباً في المجتمعات المضيفة لهم، وحتى الربط بين وجودهم في لبنان ومشاكل صغيرة كانت أم كبيرة يعاني منها لبنان.
كل ذلك ساهم الاعلام في إظهاره وتكريسه تارة، وتبديده ومحاربته تارة أخرى. وفي الوقت نفسه خلق هذا التناقض علاقة معقدة نوعاً ما بين هؤلاء الناس والإعلام بالمجمل. طالت الأزمة، ومع ذلك لم يستطع اللاجئون السوريون أن يعتادوا على وجود هذه الكائنات حولهم، فخصوصيتهم باتت مفقودة في هذه الحياة المؤقتة في ظل غارات من يبحث عن سبق صحفي هنا وهناك.
❊ ❊ ❊
إسمه علاء يعمل بائعاً للورد، هرب مع عائلته من حلب، والده لا يستطيع أن يعمل، فقد يحرم من المساعدات التي تشح شيئاً فشيئاً. كل يوم عليه أن يعود مع مبلغ لا يقل عن ستين دولاراً، وإلا سيكون حسابه عسيراً. يرفض علاء أن تسيء إلى والده، فهو يحبه ويدرك أنه مجبر على دفعه إلى العمل، فهو يذكر أن أباه الأمّي كان قبل أربع سنوات يصرّ على أمّه التأكد من إنجاز علاء لواجباته المدرسية قبل الخلود إلى النوم. لكن اليوم لم يعد لديهم منزل، والإيجارات غالية في بيروت، والعودة إلى سوريا ليست واردة في القريب العاجل، ولذلك فإن عمل علاء مؤقت كما هي الحياة في لبنان.
في استراحة على كورنيش الروشة، يتأمل علاء راكبي الدراجات المائية وهم يعبرون تحت الصخرة، يلتفت إليّ ويسألني: كم وردة أحتاج لأمتلك مثل هذه الدراجة؟
❊ ❊ ❊
في البداية ظنّوا أننا قد نكون (نحن الصحافيين) وسيلة لتخفيف معاناتهم التي، عاماً بعد عام، كانت تتفاقم في ظل عدم وجود سبيل للتخفيف منها، وفي الوقت نفسه كان الخوف دائماً مرافقاً لأي احتكاك بينهم وبين كل من يحمل صفة صحافي.
الأمر الذي يجعل من الثقة مفتاحاً أساساً لكسر هذا الحاجز، مفتاحاً يفكّر السوري دائماً إن كان هذا الشخص جديراً بأن يحصل عليه في فترة قصيرة أم لا. لتدور برأسه أسئلة عدة، لماذا أخبرك قصتي، هل تملك القدرة على إيجاد الحل، ماذا سيحصل لي بعد أن تنشر ما سأخبرك به؟ كيف بإمكاني أن أتأكد من صحة ما تحاول طمأنتي من خلاله؟ كيف ستستخدم قصتي بعد ذلك؟ هل سأندم؟ هل ستسأل عني بعد أن امنحك ما تريد لتقريرك الصحفي؟
❊ ❊ ❊
إعتقل زوجها أثناء هربهم من ريف حمص، كانت حاملاً بطفلها الخامس، طفل ولد في لبنان، لأربعة إخوة تعاني اليوم والدتهم، وهم يعيشون في مجمّع مهجور تحت الأرض في الجنوب. وكأنهم مدفونون فعلاً، فالجهات الإغاثية منذ عامين لم تمر عليهم. تسألها ما هو أكثر ما تعانين منه، تجيب أطفالي بحاجة إلى الطبابة، وهنا الأطباء يستغلوننا، يسجلون أسماءنا في سجلات المنظمات الدولية، ولا يعطوننا الأدوية اللازمة. يظنون أننا نجهل ما يفعلون. يريدون أن يجعلوا من حياتنا جحيماً، لا ضوء شمس يصلنا، ولا ماء نظيفة، ولا غذاء يسير. والله إن الموت تحت القصف أرحم مما نعيشه هنا. ثم تسكت فجأة وتقول: أرجوك لا تكشف عن وجهي، لا أخاف من أحد لكن أخاف على أولادي.
❊ ❊ ❊
تجارب عدة جعلت من السوريين يشعرون بأن هذه المخلوقات التي تسمى صحافيين لا تنظر إليهم كبشر أصلاً، ومع مرور الوقت باتوا يفضلون أن يتألموا بصمت على أن يرووا لنا ما يعانون منه، معاناة باتوا على قناعة أيضاً بأننا عاجزون عن التخفيف منها أو التأثير بها. على الرغم من أن هناك من أمل ضئيل أحياناً لعدد قليل تحسّنت أحوالهم لكني أخاف أحياناً وأنا أحاورهم بأنهم على حق. فصوتهم يذهب غالباً مع الصدى.