في تداعيات سياسات الإيجار على المدينة والحياة اليومية

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آب 17 12 دقيقة للقراءة
غالباً ما يوصف المشهد السكني في لبنان من حيث: أولاً، عدم القدرة على تحمل تكاليف السكن، في ظل ارتفاع جنونيّ لأسعار الأراضي وبدل الإيجار بالمقارنة مع الحد الأدنى للأجور ونفقات الأسرة بشكل عام؛ ثانياً، عدم التطابق بين العرض والطلب؛ ثالثاً، الضغوط المستمرة للإخلاء والتهجير؛ ورابعاً، تزايد أوجه التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وفصل الأحياء عن بعضها البعض، وتجزئة المدينة.
في ظل هذه الظروف، يؤمّن الإيجار القديم سكناً لما يزيد عن نصف مليون نسمة في المدن اللبنانية الكبرى. تضمّ بيروت الحصة الأكبر، حوالى ربع مليون، تليها طرابلس. بالمقابل، ومنذ تضخّم الليرة اللبنانية خلال الحرب، شكّل هذا القانون إشكالية بين مالكي تلك البيوت وشاغليها، حيث فقد بدل الإيجار قيمته، وتفاقم الأمر مع سياسات ما بعد الحرب التي جعلت من القطاع الخاص اللاعب الأساسي في توفير السكن، وفرضت نظاماً إقتصادياً قائماً على الاستثمار العقاري من دون قيود أو ضوابط.
من خلال عملية إعادة هيكلة الدولة في التسعينات، تحوّل الإيجار القديم - القائم على نظام ضبط الإيجارات من قبل الدولة، والذي شكّل ركيزة الوصول الى السكن وديمومته في المدينة قبل الحرب - الى «مشكلة»، عجزت القوانين التي تم اقتراحها تباعاً عن حلّها. ففي العام 1992 توقّف العمل بنظام ضبط الإيجارات للعقود الجديدة، وبذلك تخلّت الدولة عن عقد اجتماعي في مجال السكن طال لأكثر من خمسة عقود، بينما أبقيت العقود القديمة على إشكاليتها. حينها، ارتبطت قضية المستأجرين القدامى مع قضية السكّن الميسّر والملائم، وأصبحت بلورة سياسة إسكانية ذات دوافع اجتماعية بمثابة خارطة الطريق للوصول الى حل عادل لمعضلة الإيجارات القديمة.
إلاّ أن إشكالية الإيجار القديم بدأت تأخذ بعداً آخر مع الارتفاع الخيالي لأسعار العقارات المسحوبة مع إمكانية تحقيق أرباح طائلة في حال إخلاء السكّان بهدف الإستثمار العقاري. من ناحية أخرى، كان يتم إخلاء المستأجرين القدامى مقابل تعويض مالي يحسب على أساس 40 % من قيمة العقار. ضمن هذه المعادلة، تفوّقت قيمة الأرض المالية على قيمتها الإجتماعية، حيث وجد سكّان المدينة مصدراً لتمويل نفقات حاجاتهم في ظل ضعف الضمان الإجتماعي على كل مستوياته من التعليم، إلى الصحة، فالشيخوخة والسكن.
 
 في نيسان 2014، وبمعزل عن أي دراسة لأعداد المستأجرين والمالكين القدامى، وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، والتركيبة السكانية للمدينة، أقرّ قانون الإيجارات الذي سوّق له على أنه «الحلّ» لمعضلة الإيجارات القديمة، وكان شعاره الأساسي إنصاف المالك القديم. مع إقرار القانون، تمحور الخطاب العام في هذه القضية حول ثنائية المستأجرين مقابل المالكين، في حين يخفى دور السلطات العامة في نشوء هذه الأزمة. ومن ناحية أخرى، أشارت دراسات عدّة، ومنها التي أجرتها المفكرة القانونية، إلى أنّ الجهة المستفيدة من القانون الجديد هم أصحاب الرساميل الكبرى. فتشير الدراسة إلى أنّ القانون يتضمن في تفاصيله إجراءات بالغة التعقيد والكلفة، ويحمل في طياته بذور تأجيج المواجهات والصراعات بين المستأجرين والمالكين. وتستخلص أن القانون مؤشّر على «قوة التزام البرلمان بتغليب كفة أصحاب الرساميل ومصالحهم، حتى ولو حتّم عليه ذلك التضحية بوظيفة الدولة الأساسية في تعزيز الوئام الاجتماعي».

مستقبل المدينة والتماسك الإجتماعي
ما يميّز الأحياء التي يسكنها مستأجرون قدامى، هو التنّوع في البنية الإجتماعية من ناحية الدخل، الدين، الطائفة، محل الولادة والجنسية، بالإضافة إلى الإرتباط الوثيق بين السكّان القدامى والتاريخ الثقافي والعمراني للمكان. تشهد هذه الأحياء القديمة ما تبقّى من العلاقات الإجتماعية والإقتصادية التي تمزّقت خلال الحرب الأهلية، كما تمنح فرص سكن جديد لشريحة متنوّعة، وبذلك تحمل في طيّاتها إمكانية المدينة الدامجة والمختلطة. فبالرغم من أن بيروت تضم سكاناً من مختلف الجنسيات والانتماءات، إلاّ أنه في عملية شراء العقارات والتطوير العقاري وسوق السكن يتم إعادة إنتاج خطوط التماس بين المناطق، ومع إخلاء سكانها القدامى يُستكمل تحوّل الأحياء إلى بؤر للأغنياء مقسّمة وفق الإنتماء الطائفي. أصبحت المدينة فرصة لمراكمة ثروة النخبة، وانعكاساً للمشاحنات السياسية بين الأطراف المتنازعة على السلطة. يحدث ذلك في ظلّ تخلّي السلطات العامة عن لعب أي دور في تنظيم السكن وفق رؤية مدينية تحافظ على البيئة العمرانية التاريخية، وتعزز التماسك الإجتماعي، بالإضافة الى نزع الضمانات الإجتماعية، وتهديد الأمان في المسكن. ينتج من ذلك سيطرة متزايدة للمرجعيات الطائفية، والجغرافيا المناسبة لذلك، وإنقاص لدور المواطنة في بناء السلم الأهلي.
فالقانون الذي صدر مؤخراً هو بمثابة تجيير السلطة القضائية للحفاظ على مصالح أصحاب رؤوس الأموال، وأداة لتوليد آليات مبتكرة وعنيفة تجرّد سكّان المدينة من إمكانية البقاء في منازل وأحياء طالما سكنوها ووجدوا سبل العيش منها. تصدر تلك القوانين بمواكبة خطابات سائدة تتعمّد خلط المفاهيم بحيث يُختصر حق السكن بحق التملّك، وتتوسّع حقوق الملكية على حساب حقوق أخرى والمصلحة العامة. بذلك يتحوّل القانون أيضاً إلى أداة رمزية تسلب السكّان قدرتهم على مجابهة الإخلاء، ولعب دور في صنع مستقبل المدينة ومستقبلهم، وتزيد من هشاشة ظروفهم.
إن تأثير القانون لا ينطوي فقط على من هم الأضعف في المجتمع (المسنين، المعوّقين، غير اللبنانيين والفقراء)، إلا أنّ طرد الناس من أحيائهم سيوسّع أيضاً نسبة الضعفاء والمهمّشين. فسكّان بيروت لا يواجهون خطر الإخلاء بسبب وضعهم القانوني، إنّما جرّاء سياسات تنتقص من حقوق المواطنة، وتعتبرهم عقبة في وجه التطوير العقاري. يؤدي ذلك الى ممارسات مجحفة ومهينة بحق السكّان، وتدخلهم في محنة إثبات «شرعيتهم» للبقاء في المدينة.

مشروع «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها»
ضمن هذا السياق، تم تطوير مشروع «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها»، وهو مشروع بحثي (2015-2016) درس آثار التطوير العقاري والسياسات القائمة على السوق، على الحقوق السكنية في بيروت وتشريد العديد من السكان، لا سيما ذوي الدخل المحدود. لمواجهة عمليات التهجير هذه، هدف المشروع إلى دراسة وتشكيل وتنفيذ استراتيجيات تواجه الإخلاء المستمر لسكان المدينة. وعلى هذا النحو، تطوّر من خلال سلسلة ورش عمل حول ستة أحياء في بيروت (الباشورة، الطريق الجديدة، البدوي، المصيطبة، الروم، الشياح)، حيث قام بإحصاء الوسائل التي من خلالها يصل سكان بيروت الى السكن. وانطلق المشروع من رؤية لتاريخ السكن مرتبطة بالحيّ، وتناول السؤال الأساسيّ: كيف يمكن للناس - الذين لا تشملهم أية حقوق ملكية - أن يسكنوا المدينة؟
كما وثّقنا طرقاً محتملة نحو السكن الميسور، عن طريق رسم خرائط للمباني المهجورة، والشقق الشاغرة، والإيجارات القديمة، والترتيبات السكنية المتنوعة والهشّة، والتغيّرات في ملكية الأراضي.

السكن في الإيجار
من أبرز استنتاجات الإحصاء التي أجريناها على مستوى المباني التي تمّ تشييدها قبل عام 1992، هو أنّ الإيجار، القديم والجديد، هو الوسيلة الأساسية للوصول الى السكن. في بعض الأحياء، فاقت نسبة المستأجرين معدّل الإيجار في بيروت - وهو 49,5 % وفق دراسة أجرتها UNDP في 2008 - ليصل الى 66 % من نسبة سكّان حيّ البدوي و 52 % في حيّ الروم. أمّا معدّل المستأجرين القدامى في الأحياء التي أجرينا فيها البحث فهو 23 %، وترتفع هذه النسبة في الأحياء الأقدم والتي لا تزال تحافظ على نسيج عمراني متماسك.
في المصيطبة، على سبيل المثال، وجدنا أن نسبة المستأجرين أقلّ من المعدّل ومتساوية مع نسبة الأبنية الجديدة التي تم تشييدها ما بعد عام 1992. إلاّ أن أحياء المصيطبة الداخلية، كحيّ اللجا من جهة الشرق وزواريب فرن الباشا والصفح القديمة فأكثرية السكّان من المستأجرين والمالكين القدامى ومعظمهم يتشاركون المباني.

الإخلاء والاستثمار
بالرغم عن أزمة الوصول إلى السكن، نجد نسبة مرتفعة من المباني الشاغرة في الأحياء التي تم مسحها. تتراوح هذه النسب بين الـ 10 والـ 12 في المئة من النسيج العمراني القديم.
وجدنا من أصل 381 مبنى تمّ مسحها في الطريق الجديدة، 17 مبنى شاغراً نتيجة إخلاء، 8 شقق تم إخلاؤها، و19 مبنى مهدد بالإخلاء. أحد هذه المباني يحتوي على 28 شقة، معظم سكانها من المسنين. أمّا في حيّ الروم وشارع مار مخايل، فتمّ إخلاء 11 مبنى وتحوّلت المباني من سكنية الى مطاعم أو حانات. كما وجدنا كتلة مكوّنة من 13 مبنى سكنياً في حي المصيطبة بقرب الجامع، تم إخلاؤها وتخريبها.
هذه عيّنة عن الأرقام التي وجدناها من خلال المسح. إلاّ أنّ عند التعمّق في آليات الإخلاء، نجد أن انتقال الملكية والمشاريع الجديدة الضخمة التي لا تتناسب مع نسيج الحيّ العمراني والاجتماعي هي الدافع الرئيسي للإخلاء.
في حي الروم مثلً، ارتفعت أسعار الشقق من 1200 دولار للمتر المربع إلى 4050 دولاراً اليوم، بينما 75 في المئة من سكان الرميل هم من المستأجرين وهم أصحاب الدخل المتدني. في حالة شبيهة، ارتفع سعر المتر المربع في الطريق الجديدة إلى 2400 دولار بينما أغلب سكان الحي هم من ذوي الدخل المحدود.
نلاحظ أيضاً أن هذه المشاريع الجديدة تستبدل مساحات المشتركة ومعالم اجتماعية، مثل هدم سينما أوليمبيا/الفاندوم وأبنية أخرى مصنّفة تراثية واستبدالها ببرج من 19 طابقاً في حيّ مار مخايل، أو هدم مبنى كان داراً للمسنين في الشياح.


حكايا من الأحياء
جومانا والابتعاد
عن الطريق الجديدة

تعيش جومانا وعائلتها المؤلفة من سبعة أشخاص معاناة منذ انتقالهم من البيت الذي ولدوا وترعرعوا فيه في منطقة الطريق الجديدة (ساحة أبو شاكر)، للسكن في بلدة برجا الواقعة في منطقة إقليم الخروب جنوب بيروت.
أُجبرت العائلة على ترك بيتها «التاريخي» والانتقال إلى «منطقة لا يربطها بها سوى البيت الجديد، الذي تعيش فيه»، بعد بيع المبنى القديم لشركة عقاريّة قرّرت هدمه واستبداله بمبنى جديد. لم تكن عائلة جومانا الوحيدة المتأثرة بهذا الوضع، بل المستأجرون القدامى كلّهم، كون التعويض الذي دفعته الشركة لهم بسيطًا جدًّا، ولا يسمح باستئجار أو شراء منزل ضمن مدينة بيروت.
إشترت العائلة البيت في برجا منذ عشر سنوات، إلّا أنّها عرضته للبيع مرّات عديدة بسبب تردّدها. وبعدما تأكّدت من عدم قدرتها على العيش في بيروت، حصلت على قرض من المصرف لتجهيز هذا البيت، وجعله صالحًا للسكن.
إنّ الابتعاد عن المحيط الذي كبروا فيه، والعادات التي ترّبوا عليها، والجيران والأصدقاء الذين عاشوا بينهم، ولّد «شعورًا بالغربة... غربة لم يستطيعوا التأقلم معها». أضف إلى ذلك المسافة الطويلة التي عليهم اجتيازها يوميًّا للذهاب إلى عملهم في بيروت، وتحمّل زحمة السير وكلفة المواصلات.
بعد سنة من العيش في برجا، قرّرت جومانا ترك منزل العائلة والعودة إلى بيروت. واستأجرت غرفة في شقّة تتشاركها مع عدد من الفتيات. كان قرار مشاركة السكن بالنسبة إليها صعبًا في البداية، لكنّه كان الأسهل والأوفر، بدلات الإيجار باهظة وقدرتها على شراء بيت من سابع المستحيلات.
إنّ جوّ التوتر والإرباك هذا طال عائلة جومانا كلّها، وتحديدًا والدتها، التي شعرت بالوحدة، وصعب عليها الاختلاط بالمجتمع الجديد بعد انسلاخها من مكان قضت فيه ستّين سنة من عمرها. فتدهورت صحّتها، وأُدخلت المستشفى مرّات عدّيدة.
وعن الوضع السيئ الذي تعانيه عائلتها وغيرها من العائلات، تقول جومانا «إنّ الجيران كلّهم للأسف يتعرّضون للضغوط والمعاناة نفسها، واضطروا إلى الانتقال إلى الجيّة وجدرا وسبلين».

السكان القدامى
الحلقة الأضعف بوجه مستثمري مار مخايل
 
 
على العقار رقم 641 في شارع مار مخايل، قام بيت كلٍّ من السيدة المُسنّة جورجيت، أم ميشال وزوجها المُقعد، مدام حياة، عائلة السيّد ناصيف، عائلة أبو وحيد، والسيّد جورج. يضمّ هذا العقار ثلاثة مبانٍ صغيرةٍ كانت تسكنها هذه العائلات الستّ، أربع منها بالإيجار القديم وإثنتان بالمُلك القديم، بالإضافة إلى محل «غارو» في شارع مار مخايل الرئيسي. بنى المالك الأساسيّ القسم الأماميّ من العقار خلال الثلاثينيّات، ثم بنى خلال الخمسينيّات القسمَين الخلفيّين. بعد وفاته، تملّك العقار الورثة، وهم 11 شخصاً، إثنان منهم فقط يقيمان فيه، وتحديداً في مبناه الأماميّ. في العام 2011، قام مستثمرٌ بإسم «شركة ميكالانج» بشراء أسهم المالكين غير القاطنين في المبنى، ما حاصر المالكَين القاطنَين، فاضطرا إلى البيع.
أخلت الشركة السكّان تدريجيّاً، وحضّرت لمشروعٍ كبير. حجز المالك الجديد بيت جورجيت بالشمع الأحمر بعد وفاتها وقبل أن يتمكّن أولادها من الدخول إليه وأخذ أغراضها. أمّا أم ميشال وزوجها، ومدام حياة، وعائلة السيد ناصيف، وعائلة أبو وحيد، والسيّد جورج، فلم يستطيعوا البقاء في الحيّ لارتفاع أسعار السكن فيه، وانتقلوا إلى خارج بيروت.
هذه قصّةٌ واحدةٌ ضمن قصصٍ عديدةٍ يشهدها شارع مار مخايل.
قبل العام 2006، كان شارعاً صناعيّاً على أطراف المدينة، يتراصف فيه النجّارون والإسكافيّون وأصحاب الحرف منذ العشرينيّات. قبل حوالى 10 سنوات، قصدت المطاعم والحانات والمعارض الحيّ لتدنّي الإيجارات فيه وحبّاً بطابعه العمرانيّ والإجتماعيّ الفريد. بنتيجة هذا التحوّل الإقتصاديّ، إرتفعت أسعار الشقق في الحي وكان لهذا الإرتفاع أثرٌ كبيرٌ على الوضع السكنيّ فيه. هناك وجدنا أنّ أغلبية المباني مملوكةٌ من ورثة عدّة، يتشاركون أسهم عقارٍ واحد. غالباً، يصعب على المالكين المتعدّدين أن يفرزوا ملكهم، بسبب ارتفاع كلفة رسوم الفرز. لذلك، يسهل على المستثمرين والمطوّرين العقاريّين إقناع مالكين بالبيع، وبخاصّةً ممّن لا يسكنون في الملك نفسه. ما يجبر سواهم على البيع، لا سيما من ذوي الحصص الصغيرة. ويجد العديد من المالكين القدامى في البيع ربحاً ماليّاً يضمن شيخوختهم، في ظلّ غياب أيّ ضماناتٍ أخرى.
الخيّاط ميشال بين وسط بيروت وشارع الخازنين
 
 
نزح ميشال الخيّاط وعائلته إلى المدينة طلبًا للعلم في إحدى مدارس العاصمة. أمّا والده المزارع، الذي رغب في تقديم أفضل تعليم لأولاده، فأبى مغادرة منزله وقريته، والتخلّي عن العمل في الأرض. لذلك، استأجر لعائلته شقّة بالقرب من المدرسة في حيّ مستشفى الرّوم، حيث كان يزورها من حينٍ إلى آخر.
ترعرع ميشال في هذا الحيّ، الذي يعجّ بالذكريات، بين محطّة القطار والترامواي. لا يزال يذكر كيف كان ورفاقه يتهرّبون من دفع الخمسة قروش، فيستقلّون القطار خلسةً من الباب الخلفي.
ويُخبر بحسرةٍ عن بعض العادات، التي محاها الزمن وكانت متّبعة في شارع الجميّزة. كان الميت يوضع على عربة يجرّها حصانان، وعند مرور الموكب في الشارع يُقفل أصحاب المحلّات متاجرهم احترامًا. أمّا اليوم ففقد الموت هيبته، وأصبحت المآتم والأفراح تُقام في الوقت نفسه والمبنى نفسه.
تعلّم ميشال الخياطة في أحد محلّات العاصمة حيث اكتسب خبرة واسعة. وعندما أصبح جاهزًا مهنيًا، إستأجر محلًا في برج الغزال بالقرب من ساحة البرج، المعروفة اليوم بساحة الشهداء. أمضى تسعاً وعشرين سنة من عمره يعمل في هذا المحل إلى أن أخرجته منه «سوليدير» مقابل مبلغٍ زهيد. هي البناية التي استأجر فيها ميشال محلّه الأوّل في العاصمة، وحاول مالكها إنقاذها من وحشيّة «سوليدير» بربط نفسه بالمبنى بواسطة جنزيرٍ، محاولًا منع الجرّافات من هدمها. ويُخبر ميشال أنّ مقاومة المالك لم تمنع رجال الأمن من فكّه، واقتياده بعيدًا بعد إذلاله أمام كاميرات وسائل الإعلام المحليّة. وعقابًا على موقفه هذا، لم تدفع الشركة المذكورة للمالك التعويض بالشكل المناسب، واستكملت عمليّة الهدم وكأن شيئًا لم يكن.
عندئذٍ، عاد ميشال إلى حيّ مستشفى الرّوم حيث افتتح محلًا جديدًا في شارع الخازنين، وما زال يعمل فيه حتّى اليوم.

إنتقال الملكية لصالح مستثمرين محليين  في «كامب هاجين»
 
 
جانيت هي من سكّان «كامب هاجين» في منطقة البدوي. تعيش على بُعد خطواتٍ من «كنيسة جورجيوس للأرمن الأرثوذكس». بيتها صغيرٌ جدّاً، مساحته خمسةٌ وخمسون متراً مربّعاً، فيه صالون وغرفة نوم ومطبخ وحمّام. وهي تسكن في هذا البيت منذ العام 2000 مع زوجها، لكنه توفي منذ أربع سنوات. وتعيش معها ابنتها، وهي بدورها أمٌّ لولدين. وتعمل جانيت خيّاطةً، ولا تجني الكثير من المال، إذ تتقاضى ألفي ليرةٍ لبنانيّةٍ مثلاً لتقصير السروال.
ملكيّة البيت تعود إلى الوقف الأرمنيّ. الكنيسة تؤجّرها شقّتها بإيجارٍ ثابتٍ قدره مئتا دولار. ولم يتغيّر منذ وصولها إلى المنطقة قبل 17 عاماً. سابقاً، سكنت جانيت وعائلتها في شارع مار مخايل بالإيجار القديم. ولكن، بالإتفاق مع المالك نفّذ الإخلاء مقابل تعويضٍ لم يعطها منه شيئاً. وهي تقول إنه سلبها حقّها.
نشأ «كامب هاجين» كمشروعٍ سكنيٍّ في العام 1929، خصّص للّاجئين الأرمن الذين وصلوا إلى بيروت في العام 1922 هرباً من المجازر في منطقة كيليكيا. وقتها، اتخذت منظّمات «الصليب الأحمر» وسلطات الإنتداب الفرنسيّ إجراءات إقامة آلاف الخيم في منطقة الكرنتينا. إبتداءً من العام 1926، وبمبادرةٍ من جمعيّاتٍ أرمنيّةٍ وبمساعدةٍ من الإنتداب، تمّ إقتراح حلولٍ دائمةٍ لسكن اللّاجئين الأرمن خارج المخيّمات، فتمّ نقلهم تدريجيّاً إلى مناطق مجاورة للكرنتينا، مثل «كامب هاجين» الذي تكوّن تاريخيّاً من ثلاثة عقاراتٍ كبيرةٍ مساحتها الإجماليّة 25 ألف مترٍ مربّع. قامت جمعية «إتحاد رفاق هاجين» بشراء الأراضي وضمّها وإعادة فرزها لسكن 400 عائلة. كان النظام الأساسيّ للمشروع يمنع الهدم في الحيّ، حتى مع مرور الزمن.
لعقودٍ، سمح «كامب هاجين» بترتيباتٍ سكنيّةٍ تتيح سكن شرائح إجتماعيّة محدودة الدخل. ولكن على الرغم من منع الهدم، هناك حركة شراء عقارات كبيرة في الحيّ. منذ العام 1992، إنتقلت ملكية 21 عقاراً ، 5 منها يشغلها مستأجرون قدامى و8 للأخوان آرا ومهير ديكاسيان، أحدها في شارع أرمينيا ويتم تحويله إلى مطعم.
A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد