التاريخ الشفهي هو ممارسة ونظرية في آن واحد. من حيث الممارسة، فإن التاريخ الشفهي هو تسجيل صوتي أو تسجيل فيديو لمقابلة تتمّ بين جهتين للحصول على معلومات تاريخية من شأنها أن تسهم في فهم الماضي. غالباً ما يوصف هذا النوع من التاريخ بأنه الطريقة الأكثر قدماً للقيام بالبحوث التاريخية. فقد استخدم التاريخ الشفهي، على سبيل المثال، هيرودوت، المؤرخ الإغريقي المعروف بـ«أبو التاريخ»، وتلميذه ثوسيديديس اللذان كانا يجمعان الشهادات الشفهية ليكتب كل واحد منهما كتاب التاريخ الخاص به. لكن التاريخ الشفهي يذهب أبعد من إجراء المقابلات، لأنه «مجال دراسة وطريقة لجمع صوت الناس والمجتمعات والمشاركين في أحداث ماضية وذكرياتهم وحفظها وتفسيرها»(1).
ظهر التاريخ الشفهي، كما نعرفه اليوم، في الستينيات من القرن الماضي مع اختراع جهاز التسجيل المحمول، واستُخدم لحشد الناس وتحفيزهم على النشاط الاجتماعي من قبل حركة حقوق المرأة والحركة المناهضة للحرب وحركة الحقوق المدنية. في الواقع، خرج الباحثون في العديد من المجالات (مؤرخون وعلماء أنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع وعلماء الفولكلور إلخ.) إلى الشارع لجمع التجارب اليومية للناس العاديين، وعملوا على تسجيل التاريخ من أسفل إلى أعلى، وبالتالي تحدّوا الروايات التاريخية التقليدية التي تكتب من أعلى إلى أسفل، والتي يهيمن عليها «الرجال العظماء» و«الأحداث العظيمة» من الماضي. وهكذا أسقط التاريخ الشفهي، بجاذبيته الشعبية ونهجه العملي، التاريخ التقليدي من برجه العاجي، لخلق نوع جديد من التاريخ القائم على الحوار والتبادل.
كيف يختلف التاريخ الشفهي عن التاريخ التقليدي؟
يعود اختلاف التاريخ الشفهي عن التاريخ التقليدي أيضاً إلى طبيعته الشفهية والذاتية، واعتماده على الذاكرة والعلاقات التي يعزّزها: بين الذاكرة والتاريخ، وبين الماضي والحاضر، وبين المحاور والراوي. لكن اعتماد التاريخ الشفهي على الذاكرة كموضوعه ومصدره هو أيضاً ما يسهم في تكوين تصورات البعض عنه أنه لا يمكن الاعتماد عليه كمصدر تاريخي. ومع اعتماد التاريخ كمجال دراسة أكاديمي رسمي في أواخر القرن التاسع عشر، تمّ تحديد الموضوعية العلمية بدراسة التاريخ الذي يستند إلى مصادر أرشيفيّة مكتوبة. ولكن حتى في الأرشيفات، يتم اختيار الوثائق من قبل أمناء الأرشيف وترجمتها من سجلات المحاكم، وهذه بطبيعة الحال مصادر شفهية، وهكذا يستحيل تحقيق الموضوعية أو الحقيقة التاريخية المجرّدة نفسها. وهناك رأي للمؤرخ الشفهي أليساندرو بورتيلي يقول بأن «اختلاف التاريخ الشفهي عن التاريخ التقليدي يعود إلى أن الشفهي لا يخبرنا عن الأحداث بقدر ما يخبرنا عن معانيها»(2)، بمعنى أن التاريخ الشفهي يضع مسألة الذاتية في صلب المقابلة الشفهية بين طرفين، باعتبار أن المقابلة تسمح للمحاور بأن يطرح ليس «ما الذي حدث؟» وحسب، بل وأيضاً «ما هو شعورك حيال ما حدث؟» بالإضافة الى هذا فإن مجموعة المقابلات، التي تخضع للتحليل والتحقيق النقدي، توفّر فهماً أفضل لما يعنيه الماضي لأولئك الذين اختبروه، ما يسهّل الوصول إلى التاريخ ويجعله ملموساً وذا صلة بحياة الناس.
التاريخ الشفهي في لبنان
بالرغم من مبادرات مهمة حدثت في مؤسسات أكاديمية، مثل الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة البلمند وجامعة الروح القدس - الكسليك، لا يزال التاريخ الشفهي مصدراً غير مستغلّ في لبنان. بالمقابل فإن بعض الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، مثال forumZFD ومؤسسات للتوثيق والأبحاث وجمعية «محاربون من أجل السلام»، هي التي قامت عموماً بتجربة أساليب التاريخ الشفهي لمواجهة تحدّي معالجة ماضي لبنان القريب المتمثل بالحرب الأهلية. وفي غياب كتاب تاريخ مدرسي موحّد، اضطلعت هذه المنظمات، بالشراكة مع الهيئة اللبنانية للتاريخ، بأدوار حيوية في محاولة إدخال التعليم عن الحرب الأهلية في صفوف المدارس الرسمية والخاصة. وبالرغم من أن لبنان ليس المجتمع الوحيد الذي عانى من الصراع وهو الآن بدون كتاب تاريخ مدرسي وطني منقّح يغطي تلك المرحلة، فإنه لا يستطيع المضي قدماً كمجتمع إذا كان تاريخه الرسمي ينتهي عند عام 3491.
إن تعليم التاريخ أمر ضروري في بناء الهوية الوطنية وضمان السلم الأهلي. ولهذا فعند التعامل مع تاريخ متنازع عليه، تصبح مقاربة التاريخ شفهياً في التعليم أحدى أهم الطرق للتطرّق إلى القضايا الحساسة.
كيف يمكن للتاريخ الشفهي أن يعزّز السلم الأهلي في لبنان؟
يعتمد التاريخ الشفهي، بادئ ذي بدء، على الاستماع، ولا سيما الاستماع إلى مجموعة متنوّعة من الأصوات. والتنوّع هو من السمات التي يفتخر بها لبنان على المستويين الإقليمي والعالمي. وفي هذا السياق، يكون من الأمور المنطقية جداً الابتعاد عن المحاولات المحبطة للاتفاق على نهج سرد موحّد مكتوب لماضي لبنان، والتركيز بدلاً من ذلك، على بناء نهج سرد متعدّد الأصوات يحتفل بالتنوّع، ويعزّز فهم التفسيرات المتعدّدة للماضي. وبهذه الطريقة يمنح التاريخ الشفهي الطلاب إمكانية وصولهم إلى سرد التجارب التاريخية الشخصية، وفي ما يتعلّق بالحرب، يمكن أن يسلّط الضوء على عبث العنف كوسيلة لحلّ النزاعات. وبهذه الطريقة يمكن أن يساهم التاريخ الشفهي بأن لا «يعيد التاريخ نفسه» خاصة إذا كان مليئاً بالآثام، كما أنه يطعن بمقولة المثل البالغ التبسيط، وهو «إن المنتصر هو الذي يملي التاريخ». وعلاوة على ذلك، فإن استخدام التاريخ الشفهي يمكّن المعلمين والتلاميذ من العمل معاً كشركاء وكمشاركين في صنع التاريخ لا مجرّد سرده. وعلى أساس الاحترام المتبادل والتفاهم، يستطيع أن يساهم مساهمات فعّالة في السلم الأهلي في لبنان، وأن يكون منبراً لتشجيع الحوار والقبول بالآخر وقبول التنوّع.