مقاربة العنصرية من منظور مفهوم التقاطعية: السياسات اليمينية وانعكاساتها الاجتماعية في لبنان

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آب 17 7 دقائق للقراءة
مقاربة العنصرية من منظور مفهوم التقاطعية: السياسات اليمينية وانعكاساتها الاجتماعية في لبنان
© «الخوف» - عمل حفر للفنانة عزه ابو ربعية
يبدو العالم قاتماً اليوم. فالعام الماضي شهد تطورات سياسية مقلقة في الغرب مشيرة إلى صعود اليمين المتطرّف، ومهدّدة بانهيار نظام القيم الليبرالية الذي كان من المفترض أن يبشّر بالحرية والتنوع والتعددية الثقافية والإدماج. ونرى مؤشرات تدلّ على الأوقات «المظلمة» التي نمرّ بها في كل مكان، فمن التصويت لصالح «بريكسيت» في المملكة المتحدة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، وما نجم عنه من ارتفاع في نسبة جرائم الكراهية ضد المهاجرين، ووصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة بالرغم من سياساته التمييزية والواضحة على أساس الجنس والعرق، والكارهة للنساء، إلى صعود الحركات الرجعية والثورات المضادة في العالم العربي.
 وتبدو إنجازات الثورات التقدمية وحركات الحقوق المدنية السابقة معرّضة للخطر أمام هذه الموجة الأخيرة من الكراهية والعنصرية والخوف من الأجانب.

ماذا وراء هذا الانتكاس؟ هل نشهد ظروفاً مماثلة لتلك التي شهدتها أوروبا في مطلع القرن العشرين، والتي أدّت إلى ظهور الفاشية والنازية؟ وكيف نفسّر صعود اليمين المتطرّف هذا، وما هي انعكاساته الاجتماعية على المجتمعات حول العالم؟
تمرّ العولمة والقيم الليبرالية اليوم في أزمة. وأما الفكرة بأن العالم يشكّل «قرية صغيرة» تُحترَم فيها مبادئ الحرية والتنوع والإدماج فهي في مأزق. يشير صعود اليمين المتطرّف، وانتشار الخطاب العنصري والكاره للأجانب إلى هشاشة النظام الليبرالي الذي يبشّر بـ«الحريات» من دون أن يولي أي اهتمام فعليّ للامساواة البنيوية. وتتّضح هشاشة هذا النظام الذي يحاول معالجة القضايا الاجتماعية من منظور سياسات «الثقافة» و«الهوية» في معزل عن الظروف الاقتصادية مع كل انهيار اقتصادي كبير جديد يزعزع بسرعة القيم الليبرالية، كالحرية والتعددية الثقافية والإدماج، وييسّر صعود الحركات المحافظة والرجعية الاجتماعية والاقتصادية.
في الواقع، منذ الانهيار المالي في العام 1929، اقترنت كل أزمة بصعود السياسات الشعبوية واليمينية وبموجة من العنصرية وكراهية الأجانب. وتطرح هذه الملاحظة التاريخية تحديات مهمة أمام الأيديولوجيات ما بعد البنيوية والليبرالية. فماذا تعني الحرية والتنوع في عالم رأسمالي تكون فيه اللامساواة فادحة والاستغلال سافر والهجرة لا مفرّ منها بالرغم من الإشكاليات التي تطرحها (وخصوصاً على ضوء التاريخ الاستعماري)؟ وكيف نحافظ على الحريات والتنوع ونحترمها خلال فترات الصعوبات الاقتصادية حينما تكون المنافسة داخل الأسواق القائمة أساساً على نوع الجنس والعنصرية أشدّ شراسة؟
وخلال الأزمات، يتلاشى مفهوم «الصواب السياسي»، وتتجلّى الديناميات الحقيقية للسلطة والتدرّج الاجتماعي، متّخذة في أغلب الأحيان وجه العنصرية البغيض. من هنا، لا يمكننا أن نفهم العنصرية وكراهية الأجانب من دون النظر في السياق الاجتماعي والاقتصادي الأوسع والظروف الهيكلية التي تيسّر صعودها في المجتمع. ففي الواقع، لا تزال تداعيات الأزمة المالية التي هزت الاقتصاد العالمي في عام 2008 تتكشّف على المستوى الاجتماعي. وقد أدّت معدلات البطالة المرتفعة وانعدام الأمن الاقتصادي والاضطرابات السياسية والحروب المستمرة وأزمة اللاجئين التي وصلت إلى أوروبا والخطاب العالمي عن «الحرب على الإرهاب» إلى خلق أرضية خصبة للعنصرية وكراهية الأجانب والشعبوية اليمينية، فازدهرت ووصلت إلى السلطة في بعض الدول الغربية. إلا أن العنصرية ليست حديثة وصعودها المتصوَّر في الغرب في الآونة الأخيرة يشير إلى تحوّلها من ظاهرة كامنة ومحتوية إلى ظاهرة أكثر جرأة وانتشاراً بفضل الحملات السياسية والتغطية الإعلامية. وعلاوة على ذلك، فإن العنصرية والسياسات اليمينية الشعبوية برزت في أماكن مختلفة في العالم بدرجات متفاوتة من الحدّة تبعاً لسياقاتها المحلية. ففي أوقات تتّسم بعدم الاستقرار والتقلقل، قد تبدو الشعارات الشعبوية عن «الأمن» والقيادة «القوية» و«الحرب على الإرهاب» و«القومية» و«مراقبة الحدود» أكثر جاذبية في كافة أرجاء العالم. وهذا واضح في السياق اللبناني.
تهيمن اليوم على المشهد السياسي في لبنان السياسات اليمينية التي تتنوع في الطيف الطائفي بين الليبراليين والمحافظين. وعلى الرغم من اختلاف مواقف الأحزاب السياسية الرئيسية في لبنان تجاه القضيتين السورية والفلسطينية، فإن سياساتها اليمينية تتلاقى بوضوح في معاملتها للاجئين والعمال المهاجرين. فجميع الأحزاب السياسية الرئيسية في لبنان متواطئة في نشر ثقافة العنصرية ضد العمال المهاجرين واللاجئين، أو السماح لانتشارها من دون محاولة واضحة لمواجهتها. ولذلك، يجب التأكيد على أن العنصرية وكراهية الأجانب ليست خصائص فطرية في مجتمعات معينة، أو نتائج طبيعية للتنوع الثقافي أو العرقي أو الإثني. هذه مواقف وسلوكيات تتطوّر من خلال عملية عمدية لتشكيل «الآخر» تحاول تصويره كتهديد، واستخدام استراتيجية اختيار كبش فداء للتهرّب من المسؤولية وتحويل اللوم في المجتمع. وغالباً ما تكون العنصرية نتيجة لخطاب تنشره بقوة الطبقة الحاكمة ووسائل الإعلام التابعة لها بطريقة تحوّل اللوم بعيداً عن الدولة إلى الفئات الأضعف، كاللاجئين والمهاجرين في أغلب الأحيان. ولذلك، فإن معظم المشاكل في البلد، مثال الافتقار إلى فرص العمل، والنقص في الكهرباء، وازدحام السير وأزمة السكن وارتفاع معدلات الجريمة، يمكن أن تُنسَب إلى اللاجئين من دون التساؤل عن دور الدولة ومسؤوليتها. وفي سياق العنصرية المتزايدة والسياسات الشعبوية هذا، تصبح حملة الإجراءات المشدّدة التي تتّخذها الدولة ضدّ اللاجئين مرحّبة ومُجازَة من قبل بعض المواطنين الذين يبدأون بتصوير اللاجئين على أنهم تهديد سياسي واقتصادي وأمني. وفي ظل هذه الظروف، يصبح خطاب «الأمن القومي» أولوية فيغلب على جميع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى ذات الصلة.
لذلك، فإن العنصرية هي شكل من أشكال سياسات الهوية التي تميّز ضد فئات معينة في المجتمع على أساس تدرّجٍ «للهويات». ففي حين تركّز «العنصرية القديمة» على لون البشرة والسمات الظاهرية، تبدو «العنصرية الجديدة» ثقافية أكثر مما هي مظهرية، فهي تميّز على أساس الجنسية والثقافة والدين وما إلى ذلك. وفيما ترتبط العنصرية القديمة بالرقّ والاستعمار، يرتبط صعود العنصرية الجديدة ارتباطاً وثيقاً بالعولمة والهجرة وصعود الدولة القومية والأيديولوجيات القومية التي استغلّت تصلّب حدود هوية مجموعات معينة في وجه «الآخرين». وكالعديد من أنواع سياسات الهوية الأخرى، غالباً ما تنجح العنصرية في إخفاء الظروف المادية والبنيوية من خلال التركيز على القوالب النمطية، وإلقاء اللوم على الآخرين؛ فهي تنجح في تحريض الفقراء والبؤساء بعضهم ضد بعض من خلال لعب بطاقة سياسات الهوية والقومية. وهذا واضح في لبنان، فعوضاً عن مساءلة الدولة عن الظروف المعيشية المزرية، انتشر خطاب عنصري يلقي اللوم على اللاجئين، ويتّهمهم بـ «أخذ وظائفنا»، و«تهديد استقرارنا السياسي»، و«تغيير ثقافتنا»، و«تهديد أسلوب عيشنا». إنما، على الرغم من أن المنطق العنصري يحاول تصوير اللاجئين كمجموعة متجانسة، ويصف تدرّجاً واضحاً للهويات في ما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، علينا تفادي فخ تفسير العنصرية تفسيراً أحادي البعد. ويشير تحقيق أدقّ في ديناميات العنصرية في لبنان إلى أن العنصرية لا يمكن فهمها إلاّ من خلال مفهوم التقاطعية (Intersectionality)، حيث أنها تتجلّى بأشكال مختلفة استناداً إلى الطبقة الاجتماعية والمهنة ونوع الجنس والموقف السياسي للاجئ.
 
لا يُصوَّر كافة السوريين في لبنان أو يُعاملون على قدم المساواة اليوم. والسياق التاريخي للدولة السورية - اللبنانية والعلاقات الاجتماعية أساسي لفهم ديناميات هذه العلاقات اليوم والظروف التي توفّر أرضية خصبة للعنصرية والتمييز. ولكن ما يدعو للاهتمام في تحليل خطاب العنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان هو التداخل الواضح بين الطبقية والعنصرية. ويبيّن حظر التجول على اللاجئين السوريين الذي فرضته أكثر من 45 بلدية هذه الفكرة تماماً. ويكشف تحليل الخطاب المستخدمة في معظم لافتات حظر التجول تمييزاً واضحاً ضد العمال «السوريين» أو «الأجانب» تحديداً، وليس ضد اللاجئين السوريين عموماً. وبدوره، يكشف هذا عن ديناميات كبش الفداء التي تعتبر العمال اللاجئين الفقراء التهديد الحقيقي، وليس المستثمرين الأجانب الأغنياء أو الطبقة الوسطى من «النازحين» السوريين. ولذلك، هذا ليس مجرد خطاب تمييزي ضد «الأجانب» أو اللاجئين عموماً، بل هو خطاب يميّز اللاجئين من الطبقة العاملة الذين يُنظَر إليهم على أنهم عبء اقتصادي وتهديد أمني. ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من عدم استخدام الدولة اللبنانية لمصطلح «لاجئ» نظراً إلى الآثار القانونية التي قد تترتّب عن الاعتراف بالسوري في لبنان كلاجئ، فقد بدأت وسائل الإعلام والخطابات العامة باستخدام كلمة «لاجئ» للإشارة إلى الفقراء السوريين في المخيمات، مع استخدام كلمات أخرى مثل «الزائر» أو «المستثمر» أو «النازح» للإشارة إلى السوريين من الطبقتين الوسطى أو العليا . ويظهر هذا التحليل البسيط للصيغة المستخدمة في لافتات حظر التجوال التداخل بين العنصرية وأهمية الطبقية في فهم التمييز القائم على الهوية مثال العنصرية.
وأخيراً، على الرغم من التحليل المتشائم لصعود الشعبوية اليمينية والعنصرية السافرة، يبقى أفق التفاؤل منفرجاً. فعندما ننظر عن كثب إلى الديناميّات السياسية في العالم، من صعود الحركات اليسارية الجديدة في أوروبا (وشعبية جيريمي كوربن غير المتوقعة في المملكة المتحدة)، إلى التنظيم القائم ضد التمييز على أساس الجنس والعرق في الولايات المتحدة، والحركات المناهضة للعنصرية في لبنان، وتجدّد تعبئة المجتمعات الفقيرة والمهمّشة في الحراك الشعبي في منطقة الريف في المغرب، كلها مؤشرات على أن «تفاؤل الإرادة» ما زال حياً!
A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد