تراجي - كوميديا الرصاص العشوائي

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 آب 17 6 دقائق للقراءة
تراجي - كوميديا الرصاص العشوائي
لي مع الرصاص الطائش قصة شخصية جداً: كنت في السادسة من عمري عندما أصبت برصاصة طائشة كادت تودي بي لولا تدخل العناية الإلهية. في ليلة 19 تموز 1963، ليلة عيد مار الياس أو النبي إيليا الذي يعدُّ واحداً من القديسين الشعبيين لدى المسيحيين في لبنان، كنا نحتفل أنا وأخوتي بهذا العيد على سطح منزلنا مطلقين المفرقعات ومشعلين الشموع، إلى أن تعبنا وخلدنا إلى النوم تحت خيمة كنا نقيمها كل صيف قرب العريشة...
في تلك الليلة كان لبنانيون كثر يحتفلون أيضاً بخطاب ألقاه للفور الرئيس فؤاد شهاب مطلقين الرصاص ومعلنين تأييدهم له. ولم تمض ساعة حتى طرقت رصاصة طائشة حديد الخيمة وارتدّت إليَّ بينما كنت مستغرقاً في نومي، وأصابت إبطي الأيسر فسال منه دم. عندما اكتشف أبي وأمي بقعة الدم على فراشي صرخا خوفاً، ونقلني والدي بسرعة بسيارته إلى بيت طبيب هو قريب لنا ويسكن في جوارنا. فحصني الطبيب جيداً، وراقب الجرح، وظن أن الرصاصة مسحت إبطي ولم تنفذ إلى الداخل، وما جعله يتأكد مبدئياً من هذا الرأي هو أنني كنت سليماً تماماً مع جرح في الإبط فقط. طلب من أهلي بعدما نظف الجرح وضمده، أن يعيدوني إلى البيت ويراقبوني فإذا حصل أي تطور ينقلونني إلى المستشفى سريعاً. وقال لهما إن عليه أن يصطحبني صباح اليوم التالي إلى المستشفى ليجرى لي صورة شعاعية فيطمئن نهائياً إلى أمر الرصاصة. في صباح اليوم التالي أجريت لي الصورة الشعاعية وتبين أن الرصاصة اخترقت إبطي وانزلقت إلى أضلاع قفصي الصدري ومكثت هناك. قال الطبيب لأمي بصوت عال: حدثت أعجوبة مع إبنك. عبرت الرصاصة بمحاذاة القلب والشرايين ولم تصبه. شعرة ضئيلة بين خط الرصاصة والقلب. أعجوبة. نجوت فعلاً بأعجوبة ولم أتناول ولا حبة دواء كما أخبرتني أمي. لكن الأطباء ظلوا يراقبونني طوال سنوات خوفاً من أن تتحرك الرصاصة التي لا تزال حتى الآن في صدري. حينذاك كان لا بد لأمي من أن تنذرني للقديس مار الياس الذي أنقذني الله بشفاعته. ومنذ ذاك الحين أصبح مار الياس شفيعي الدائم حتى خلال بضع سنوات أعلنت فيها إلحادي لأعود من ثم عنه، وهذه مسألة أخرى.
الرصاصة الطائشة التي أصابتني تركت فيّ حالاً من الخوف الكبير من الرصاص، طائشاً كان أم غير طائش. وحتى الآن لا أحتمل سماع صوت الرصاص، وعانيت كثيراً خلال حروبنا اللبنانية من هذا الخوف. وما زلت حتى الآن أيضاً كلما سمعت صوت إطلاق رصاص أختبئ. لا أدري إن كنت جباناً. لكنّ مثل هذا الجبن شرعي جداً.
اللبنانيون يهوون إطلاق الرصاص. ويمكن الكلام بسهولة عن هذه الهواية اللبنانية الأصيلة. هواية غريبة نادراً ما تهواها الشعوب. يهوون إطلاق الرصاص في كل المناسبات: الأعراس، الولادات، الجنازات، النجاح في الشهادات المدرسية... وأحياناً لا ينتظر اللبنانيون المناسبة ليطلقوا الرصاص. حتى عندما يلقي بعض زعمائهم خطباً نارية يطلقون الرصاص مبتهجين بما يعدّونه انتصاراً. إنهم يبحثون دوماً عن انتصارات ولو كانت وهمية ليطلقوا الرصاص. هذه عدوى تسري كالدم في عروقهم، ومعظمهم ورثها عن الآباء والأجداد. لنتصور مواطنين ينتظرون أسراب الطيور المهاجرة التي تعبر سماء لبنان كي يطلقوا عليها الرصاص، أجل الرصاص من بنادق حربية وليس من بنادق صيد، مع علمهم أن لحمها لا يؤكل.
إنهم اللبنانيون «الطائشون».. هكذا سمّيتهم وأسميهم بلا تردد. لا يبالون بالضحايا الأبرياء الذين يسقطون قتلى وجرحى جراء إطلاق هذا الرصاص المجرم وكأنهم من الأعداء وليسوا إخوة لهم في هذا الوطن. والمستهجن أن هؤلاء لا يرعوون ولا يرتدعون بل يصرون على ممارسة هوايتهم القاتلة. إنهم يهوون سماع أزيز الرصاص ورؤيته خصوصاً في الليل يرسم خيوطاً في السماء. وأذكر أن بعض اللبنانيين كانوا يطلقون ما يسمى الرصاص الخطاط في الليل مبتهجين ومنتشين.
قبل أشهر قام المخرج السينمائي اللبناني فيليب عرقتنجي بحملة عبر الفايسبوك وسائر المواقع الإلكترونية ضد الإطلاق العشوائي للرصاص في لبنان، بعدما اخترقت رصاصة طائشة زجاج النافذة في بيته وكادت تصيب ابنه الذي نجا بأعجوبة. نشر المخرج المعروف الذي خاض غمار الحرب اللبنانية في فيلم مهم هو «تحت القصف» صورة الزجاج الذي اخترقته الرصاصة والخراب الذي أحدثته داخل الغرفة، وكتب نصاً يؤنب فيه «المجرم» ويدعو إلى مواجهة هذه الظاهرة البربرية التي ما زالت تسود لبنان. ولم يمض يوم على بدء هذه الحملة التي لقيت ترحاباً لدى جمهور الإنترنت حتى سقطت شابة لبنانية تدعى أمال خشفة ضحية رصاصة طائشة أصابتها بينما كانت على شرفة منزلها في منطقة الطريق الجديدة - بيروت فأردتها... وقبلها سقطت شابة في زحلة تدعى سارة سليمان برصاصة طائشة ووزع أهلها غداة رحيلها وصية مؤثرة كانت كتبتها تدعو فيها إلى وهب أعضائها إلى من يحتاجها.
وفي إحدى المرات أصيب أكثر من خمسة مواطنين خلال أربع وعشرين ساعة في مناطق عدة. وأصلاً لا تُحصى أسماء ضحايا إطلاق الرصاص العشوائي في لبنان الذين يسقطون على شرفات منازلهم أو على الأرصفة وفي الساحات والمدارس... حتى الأمن العام اللبناني لا يملك أرقاماً في شأن هؤلاء الضحايا الذين يزدادون.
وعلى رغم النداءات التي تطلق هنا وهناك وما يرافقها من حملات تهديد يقوم بها جهاز الأمن اللبناني يصر هواة إطلاق الرصاص على ممارسة هذا الفعل الإجرامي وبلا هوادة.
وليس مستهجناً أن تعم هذه الظاهرة الإجرامية كل المناطق اللبنانية، فهواة إطلاق الرصاص العشوائي ينتمون إلى كل الطوائف والمشارب، وجميعهم يلتقون حول هذه العادة التي تعد تقليداً شعبياً «عريقاً» يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية. فإطلاق الرصاص يجب أن يرافق كل المناسبات وعلى اختلاف طبيعتها، حزناً أم فرحاً أم «نضالاً» سياسياً... لا تكتمل الأعراس أو الجنازات بلا إطلاق رصاص، العيارات النارية وحدها تهبها هالة وتزيدها أبهة وافتخاراً ووقاراً. وبعض هؤلاء الهواة لا يوفرون مناسبة تتيح لهم إطلاق الرصاص، وفي ليلة رأس السنة يخرج المحتفلون سلاحهم ويفتحون النار مبتهجين. ومرة أطلت امرأة على إحدى الشاشات تحمل رشاشاً وقالت: لا يحلو رأس السنة بلا إطلاق رصاص، «صوتو حلو».
وما يدعو إلى الاستغراب أن حراس بعض الزعماء السياسيين ومرافقيهم لا يتوانون في أحيان عن إطلاق النار من سلاحهم ابتهاجاً لا سيما إذا ألقى زعماؤهم هؤلاء خطباً حماسية ووطنية. وهذه العادة عمد بعض المواطنين الى استبدالها بالمفرقعات والأسهم النارية. وهذه يألفها كل اللبنانيين أصلاً، ويستخدمونها في الأعياد والمناسبات، ووجدوا فيها بديلاً للسلاح. المهم أن يرتفع دوي البارود وتتردد أصوات المفرقعات في الهواء.
في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1949 كتب الأديب فؤاد سليمان مقالاً غاضباً في الصفحة الأولى في جريدة «النهار» حمل فيه بشدة على مطلقي الرصاص العشوائي متهماً إياهم بتحقير الرصاص الذي صنع أهم الثورات في التاريخ وحرر الأوطان والشعوب، وكتب: «يا رصاص ما أحقرك في لبنان. ما أرخص أغانيك. ما أرخصك يا رصاص بلادي. في بلادي تهان بطولة الرصاص». هذه العادة السيئة والقاتلة ليست جديدة، ولم تعممها الحرب الأهلية وما تبعها من حروب، بل هي عريقة في لبنان، ويروى كيف كان بعض الأجداد يقولون عن الرصاص عندما يطلقونه عشوائياً «صوتك حنون».
ظاهرة غريبة حقاً، ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي في لبنان. أي متعة يثير أزيزه في آذان هؤلاء «الطائشين»؟ بل أي لذة تعتري هؤلاء «المجرمين» في قتل الأبرياء عشوائياً؟ يطلق اللبنانيون الرصاص لا ليفرحوا به فقط بل ليبلغوا الآخرين – أياً يكن هؤلاء الآخرون - أنهم هنا وأن لديهم سلاحاً وأنهم جاهزون. هذا التقليد توارثته أجيال عاشت حقبات النزاعات الأهلية، ورسخته الحرب التي لم تلق حتى الآن نهاية حقيقية، ما دامت أسئلتها مطروحة ولم تلق الأجوبة الشافية.
يخيّل دوماً إلي أن السلم الأهلي لا يترسخ تماماً إلا عندما ينسى اللبنانيون جميعهم هواية إطلاق الرصاص العشوائي، ويتخلون نهائياً عن أسلحتهم الشخصية. وهذا ما يجب على الدولة أن تقنعهم به وتثبت لهم أنها هي المرجع والملاذ.

A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد