في القرى البعيدة، كان الفقر المدقع يدفع الشبّان والرجال إلى ذلّ العمل في لبنان. أمّا زائر القرى، فكان يكتشف "قرويين من دون سوء" (كما يقول محمود درويش) مازالوا على حالهم من كرم وحسن ضيافة وشهامة.
من في لبنان يعرف سوريا جيداً؟ سوريا الأخرى، سوريا الناس، سوريا النقيّة، تلك المختلفة عن، ومع، نظامها، وهي اليوم، لا تشبه أي معارضة مسلحة متوّحشة. سوريا بغاباتها الشاسعة، وشواطئها، وآثارها، و"حلبها" وشامها، وتدمرها، والتاريخ الذي صنعته، وكلُ ما لديها كي تقدّمه وبقي مستتراً؟
هؤلاء الحفاة اليوم في شوارع المدن اللبنانية وقراها، أبناء قرى، وملاك أراض، أعزاء قوم ذلوا، ذلتهم حرب تقضي على بلادهم.
هم كفلسطينيي العام 1948. عندما أجبروا على الرحيل، أضحوا فقراء مخيمات لأنّ ملكهم الوحيد كان، إلى عزّة نفسهم ومبادئهم، أراضيهم وثمارها.
ها هم اليوم منتشرون في لبنان، من أقصاه إلى أقصاه. منهم من يعيش تحت شجر الآخرين، ومنهم من يعيش في الفنادق الفخمة.
منهم من يلقى معاملة حسنة، ومنهم من يلقى أبشع أنواع العنصرية، والاستغلال.
ليس من المجدي التذكير كيف فتحوا بيوتهم للبنانيين في تمّوز العام 2006، وكيف كانوا يطهون لهم ويبعدون عنهم شبح المهانة.
ها هم هنا اليوم، حفاة، جائعون، خائفون. مليون ومائتا ألف "نازح" سوري في لبنان الذي يضيق بأبنائه أصلاً.
نازحون في بلاد تعيش، وتغذي، أزمات مستدامة، وتتبع حكوماتها المتعاقبة سياسات إنمائيّة واقتصاديّة تمييزّية تهمل السواد الأعظم من ناسها، وترتبط ارتباطاً عضوياً بجارتها "الوحيدة".
كيف يمكن لدولة لا تهتم بإيواء مواطنيها أن تتمكّن من إيواء أكثر من مليون نازح؟
وكيف لبلاد لا تحمي قطاعاتها المنتجة، كالزراعة والصناعة، أن تتجاوز أزمة إقفال معابرها البرّية؟
وكيف لدّولة تصّب جلّ اهتمامها على قطاعيّ السياحة والخدمات، أن تستمر في الحياة وهي محاصرة أمنياً وسياسياً واقتصادياً؟
وكيف لدولة عاجزة عن حماية أبنائها أن تحمي من اضطر للجوء إليها؟.
كيف يمكن لدولة غير معنيّة بتأمين فرص العمل لشبابها أن تواجه منافسة يد عاملة فقيرة، مقهورة، نزحت إلى حيث لم تجد مأوى أو خبزاً لأطفالها؟
كيف يمكن الكتابة عن تأثير النزوح السوري إلى لبنان؟