شارع الحمرا البيروتي بات جزءاً من المشهد الثقافي السوري الجديد، فلا يخلو مقهى فيه من جمع ثقافي وفني سوري، خصوصاً أن أهم المسارح والمؤسسات الثقافية تقع في محيط هذا الشارع، مسرح المدينة، مسرح بابل وسواهما. الشارع سيشهد تحولاً كبيراً ليس بالنسبة الى السوريين المعارضين لنظام بلدهم فحسب، بل حتى للبنانيين، فإذا كان الشارع يشهد عمليات اعتداء وتهديد ضد حتى اللبنانيين المتضامنين مع الثورة السورية، فإن الوجود الكثيف للسوريين في الشارع، بالاضافة إلى ضغط المنظمات الدولية، وسياسة النأي بالنفس، أدى إلى تراجع هذا التهديد، مما زاد من حيوية الحمرا بشكل غير مسبوق.
عمليات الاعتداء هذه، تعدّت الشارع إلى عروض مسرحية مناوئة للنظام كما حصل حين قدم الأخوان ملص أحد أول أعمالهم في بيروت. وقد جوبها بالاعتراض والتشويش بشكل مباشر، لكن مع الأيام اختفى ذلك الحضور المباشر للتهديد والاعتراض على السوريين.
الناقد التشكيلي ومدير الصفحة الثقافية في جريدة "السفير" أحمد بزون، قال "لا يظهر المثقفون السوريون كجسم غريب في المشهد اللبناني، فهم كانوا دائمي التردد على بيروت. يمكن أن تجد الشرخ على المستوى السياسي، أما في الثقافة فقد جرى احتضان السوريين". لكنه لم ينف أن "تنشأ حساسيّات على المستوى المهني، حين يشعر اللبناني أن السوري حل مكانه".
ولدى سؤاله عمّا يمكن أن ينتج من هذا الحضور للمثقفين السوريين في لبنان، قال بزون "لا شعور بالانتصار حتى نرى نتائج إيجابية لذلك، فالشعور بالهزيمة ـ الكارثة هو الأوضح. وهذا الشعور يمكن أن يأخذ الإبداع إلى الانطواء والعزلة والالتفاف على الأنا، أنا الشاعر، أنا الروائي، وهكذا".
ليست كثيرة الفعّاليات التي شهدها لبنان لفنانين ومبدعين سوريين، فربما لم يحن الوقت ليكتشف الفنانون طريقهم، خصوصاً بالنسبة للأعمال الجماعية، المسرح، الرقص، السينما وسواها، فذلك يحتاج إلى مؤسسات ثقافية حاضنة، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت. ومن حسن حظ السوريين أن مؤسسة لبنانية مثل "شمس" التي يديرها المخرج روجيه عساف والممثلة حنان الحاج علي، ساهمت في إطلاق تظاهرة "منمنمات: شهر لسوريا"، احتضنت عدداً من الفعّاليات بين المسرح والموسيقى والقراءات الشعرية. وقد أكد عساف أن لا حضور يذكر للجمهور اللبناني في فعّاليات كهذه، ويبدو، وفق عساف، أن "العلاقة بين اللبنانيين والسوريين تبرز فيها جوانب سلبية، هناك نفور تجاه السوري في لبنان، ويجب على المثقفين أن يعملوا معاً، باتجاه أصوات ثقافية تعالج هذا الوضع".
رمزي حيدر مدير "دار المصور"، قال لدى سؤاله عن أثر الحراك السوري في مؤسسته الثقافية "الحدث السوري عموماً اثّر في حركة الجمهور اللبناني، وبالتالي فعّالياتنا الثقافيّة باتت أقل بكثير. روّاد الدار تغيّروا وحل محلهم سوريون، والحركة الثقافية صارت تمشي باتجاه آخر".
"دار المصور" أقامت بدورها مجموعة من الفعّاليات بعنوان "تحيّة إلى الشام"، مما دفع حيدر إلى الاستنتاج "لدي لوم على المثقفين والفنانين السوريين الذين "يضعون رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة، كلهم لديهم حسابات". لكن حيدر ينتظر على ما يبدو أن يعلو أكثر صوت السوريين، "من تجربة اللبنانيين كانت كلما اشتدت الأزمة كان حضور المثقفين أقوى".
عدا عن تظاهرة "منمنمات" في مسرح "شمس"، و"تحيّة إلى الشام" في "دار المصور" يصعب العثور على فعّاليات سورية في إطار لبناني، إلاّ تلك الفعّاليات التي يمكن أن تحدث كما لو أنّ شيئاً لا يحدث في سوريا، مثلاً في مهرجان "أشكال ألوان" وهو مهرجان كبير يضم عدداً كبيراً من الأنشطة والعروض، لم يحتو سوى على عرض سوري وحيد، ورغم أن مخرجه ومؤلفه سوريان إلاّ أن موضوعه لا يمت إلى الراهن السوري. الأمر ذاته حدث في "مهرجان بيروت للرقص المعاصر" الذي تضمّن عرضا لفرقة "سمة" السورية، إلى جانب عرض آخر ضم مشاريع واقتراحات من راقصين سوريين. هذه المشاريع أظهرت اهتماماً ومسؤولية من المبدعين السوريين بما يجري في بلدهم، وقدموا في معظمهم اقتراحات لمشاريع عروض تعكس يوميات السوريين، وكلها تستحق أن توضع على سكّة الإنتاج.
عمر راجح مدير "مهرجان بيروت للرقص المعاصر"، ومدير فرقة "مقامات"، قال "من المبكر الحديث عن أثر واضح للحراك الثقافي السوري في لبنان، نحن لم نشهد مثلاً ما فعله نزوح الفلسطينيين بعد العام 1948 الذين أسسوا نهضة في كل شيء، في الصحافة والمسرح وسواهما". وأوضح أن "الراقصين السوريين كانوا، وباعترافهم، منغلقين على أنفسهم، الأن أحسوا بأن هناك ما يجب أن يتغيّر، أن يعرفوا ما يجري في العالم من تجارب". ونوّه راجح بأسف إلى وضع الراقصين السوريين الذين يضطرون للعمل في الأعراس، وفي التلفزيون من أجل لقمة العيش". وتحدث عن "غياب العلاقات الثقافية بين البلدين رغم قرب المسافة. نحن مثلاً عرضنا في مدن كثيرة حول العالم، لكن لم نعرض في المدينة التي تبعد عنا أقل من ساعتين، وأعني دمشق". لكنه يؤكد "في النهاية العلاقة من الآن بدأت بالتغيّر، فالفنانون هنا حققوا نوعاً من التواصل وأسسوا لعلاقات جديدة لا بدّ من أن تتواصل حتى لو انتهت الأزمة قريباً".
قد تكون كلمة السر في غياب أو قلة الفعّاليات الثقافية والفنية السورية هي غياب المؤسسات، والإطلالة على تجربة سورية فريدة ورائدة انطلقت مع بداية الاحتجاجات يمكن توضيح المقصود، ونعني "دار الإقامة الفنية في عاليه"، فبعد أن قامت المعمارية السورية رغد مارديني بترميم إسطبل قديم للخيول، ونالت حق استثمار المكان لعشرة أعوام، جعلت منه محترفاً للفنانين التشكيليين السوريين، يقدم لهم الاقامة، ومختلف المواد التي يحتاجونها، وقد استضافت الدار حتى الان 24 فناناً أنجزوا 120 عملاً ما بين التصوير والحفر والتصوير الضوئي والتجهيز. وبذلك يكون المحترف أنقذ فنانين اضطروا من أجل تغطية تكاليف الاقامة والعيش إلى العمل في مهن مثل صالونات الحلاقة، أو الأصبغة الجدارية، أو في المطاعم، ومن جهة أخرى أتيح للفنان السوري الهارب من الحرب والموت والدمار أن يطلق العنان لمخيلته في الرسم والتعبير. لكن يبدو، حتى الساعة، أن هذا المحترف أشبه بجزيرة معزولة للسوريين، على مستوى جنسية المقيمين، وموضوعاتهم التي تتمحور في الغالب حول الوضع السوري، ولم يتضح بعد أي سوق ستسلكه الأعمال التي أنجزها الفنانون. لكن لنلاحظ كم سيكون مفيداً لو أن الإقامة احتضنت لبنانيين إلى جانب الفنانين السوريين، وعلى أي حال فإن صاحبة المحترف تشير إلى بداية انتعاش للسوق اللبنانية بسبب أعمال السوريين، إذ تؤكد أن ما لا يقل عن عشر صالات للعرض افتتحت بفضل السوريين، ولكنها تنوّه بالاستغلال الكبير لحال الفنان السوري الضاغطة، التي تدفعه للقبول بأثمان بخسة مقابل لوحته، تقول "لقد بيعت معارض بأكملها بسعر خمسة آلاف دولار، الذي قد يكون سعر لوحة واحدة في الواقع".
كذلك فإن حركة المسلسل التلفزيوني السوري تبدو هي الأنشط والأكثر فاعلية، فهناك حركة الإنتاج الضخم التي تقف وراء المسلسل الذي غالباً ما يكون مباعاً سلفاً، الأمر الذي استدعى وجود عدد كبير من نجوم الدراما وكتابها ومخرجيها في لبنان. اختيار لبنان بديلاً أساسياً لموقع التصوير السوري جاء أولاً بسبب القرب الجغرافي والاجتماعي، ثم بسبب الطبيعة المشابهة للأرض السورية. التعاون هنا بين لبنانيين وسوريين لا مفر منه، فهناك علاقات يومية تبدأ من موقع التصوير الذي ينبغي الدفع له، وهنا يقول أحد المخرجين السوريين البارزين، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن مواقع التصوير كانت أساساً تعطى للمسلسل التلفزيوني اللبناني من دون مقابل مادي، وصولاً إلى استخدام عدد كبير من "الكومبارس" الذين يستحيل استقدامهم من سوريا. الشركات الإنتاجية اللبنانية عمل اكبر، وقد يكون حضور المسلسل السوري حافزاً لشركات جديدة. العدوى ستنتقل في النهاية إلى آلية العمل التلفزيوني اللبناني، بحكم الخبرة الكبيرة للأعمال السورية.
من جهة أخرى، شكّل نزوح السوريين موضوعاً لعدد من الأعمال التلفزيونية مثل "نيران صديقة" لمخرجه أسامة الحمد والذي تناول الحياة اليومية لقريتين حدوديتين سورية ولبنانية، و"سنعود بعد قليل" لليث حجو الذي رصد نزوح عائلة سورية إلى لبنان، وفي العملين لن يجري الاعتماد فقط على بنية إنتاجية سورية فحسب، بل وايضاً التعاون مع ممثلين لبنانيين. ومن المرجح أن تصبح حكايا النزوح واحدة من الموضوعات التي قد يجري تقديمها في المسرح والسينما وسواهما، والتي ستتطلب من دون شك اعتماداً على العنصرين اللبناني والسوري.
هناك مؤسسات ثقافية مهمتها الدعم والمساهمة في الانتاج الثقافي المواكب للثورة السورية وهي تبقى في الظل بسبب حساسية وضع المعارضة السورية في لبنان، ومن أبرز هذه المؤسسات تلك التي تدعم إنتاج أفلام سينمائيّة، خصوصاً تلك التي يجري تصويرها في سوريا، ثم يكتمل إعدادها في لبنان.
مقابل كل ذلك، من الواضح غياب نوع من الفعّاليات الثقافيّة السورية بشكل كامل تقريباً، الشاعر، الروائي، الأديب.. لا صوت لهؤلاء في لبنان، بعد أن كانت بيروت تاريخياً فسحة الحرية لهم، وفيها نشأت جماعات أدبية ومجلات وحركات ثقافية عابرة للأقطار. أما اليوم، فإن الأسماء الثقافية البارزة لن تختار النزوح إلى لبنان إلاّ في ما ندر، فالمعارضون للنظام السوري سيخشون على أنفسهم من أنصار النظام في لبنان، بسبب ما شهدوه سابقاً من تهديد ووعيد بالخطف والاعتقال، وكذلك يخشى أنصار النظام في لبنان من تصرفات هوجاء بحقهم كما جرى للممثل السوري دريد لحام غير مرة أثناء تصوير مسلسل تلفزيوني. لكن الكتّاب السوريين أينما نزحوا سيجدون في بيروت هذه المرة على يد ناشرين سوريين فرصة كبيرة للنشر