المدينة التي لم تصبح فقط مجرد بقعة جغرافية مجاورة أفسحت المجال للهرب إليها من دائرة موت تطبق على مهلٍ فكيها، حتى فوق بقايا صخب ما مرَّت به في منتصف القرن الماضي، ما زالت جميلة كنظرة طفل لا يراها سوى جبل أخضر عال، وبحر يستطيع جرف كل هذه العزلة المكللة بجمال جدران شوارع بيروت الملوّنة التي لا يمكنها إيذاء أحد.
❊ ❊ ❊
أحنُّ حقاً إلى دمشق، بكل ما فيها من جدران عتيقة تتآكل مثلما نتآكل نحن بعيداً عن ناظريها، أحنُّ إلى دمشق فعلاً، مثلما أحنُّ إلى بيروت الآن وأنا أسكن في أدراجها، هنا عندما تتخيّل قليلاً أثناء جلوسك في إحدى مقاهيها، أضواء شوارعها تبتعد عنك عندما تنظر إليها مرة أخيرة من نافذة الطائرة سيبدو كل شيء بعيداً، سيبدو كل شيء بعدها بشعاً، «وحدن بيبقوا» هم الذين أحبوا بيروت بالفعل، مثلما مشيت في شوارعها كلها وعرفت فعلاً من تكون هذه الثكلى التي يتكلم عنها الجميع، نفسه حب دمشق موجود هنا في كل مكان.
❊ ❊ ❊
ليتني أعود الى الوراء قليلاً، فقط إلى تلك الساعات القليلة التي أمضيتها على الحدود لأعبر إلى هنا، ليس لشيء، فقط أود أن أكتشف المدينة من جديد، ما زلت أذكر أول مرة مشيت بها في شارع مليء بالعجائز، كانوا محقين فعلاً بضحكاتهم عن بنطالي المتسخ قليلاً و الممزق، «راجع يتعمر لبنان» عبر كل شيء، ببناطيل ممزّقة ومتسخة، ببزات رسمية ومكاتب، كل شيء سوى تلك الأطقم المموهة، فلا تفعل شيئاً سوى أنها تقوم بافتعال جرح لن يعتاد عليه أحد.
ليتني أعود إلى الوراء لأرجع وأمشي أول مرة في شارع بمحاذاة ما تبقى من زرقة البحر، هو نفسه البحر الذي ابتلع بشهية مفتوحة من ارتدى سترات النجاة وحاول الهرب، زرقته لا تشبه شيئاً سوى شبابيك بيروت المفتوحة دائماً، الموسيقى التي تفوح من كل شباك تختلف تماماً عن كل تلك الطبول المستعرة التي تقرع يومياً في دمشق، ودمشق دوماً مجبرة على سماعها، كما بيروت سمعتها قبلاً وحولتها إلى تلك الأصوات التي تصدح كل يوم من حينها، تلك الأصوات التي غنّت وتغني دوماً لكبت ذلك الجموح المدمر المتقوقع داخل ما يسمى بالـ«إنسان».
❊ ❊ ❊
كل يوم يخرّج بعضاً من فنانين، موسيقيين كانوا أم رسامين أو سينمائيين أو حتى مسرحيين، يخرجون جميعاً ويحاولون رمي بقايا ما تركته الحرب من سواد عبر أعمالهم، يحاولون تغطية كل ذلك الدخان بألوان الحريَّة التي تنازع للخروج والبوح بخمسين عاماً من الظلم، الخطوة الأولى لهذا البوح كانت بيروت، فتحت بيروت معارضها ودور العرض لهم وما كان عليهم سوى فعل ما يجيدون فعله، أعطت مجالاً ما كان ليكون سوى صندوق خشبي في دمشق، نجوا فعلاً ونجحوا بفشل أن يكونوا أبطال أعمالهم المجسدين، قاموا بتحويل كل شيء إلى أشياء تفرغ كل سنوات القهر تلك خلال لحظات، غُيِّبوا عن دمشق، فاحتضنتهم بيروت.
❊ ❊ ❊
نقف كلنا هنا في لبنان على ضفة حلم، محاولين تكثيف وجودنا بأن نصبح أكثر دفقاً لتحقيقه، نركب كل المراكب التي تبحر كل يوم من المرافئ القديمة كي نلتقط ما بقي من ركام حلم الذين هربوا عبر البحر ولم يصلوا الى يابسة أكثر أماناً، بقوا هناك في وسط تفاصيل ما تركوه خلفهم من مدن وقرى وشوارع ما زالت تنتظر بشغف عودة الجميع إليها، نقف كلنا هنا على ضفة حنين مقتول منذ وقت قصير، محاولين تعويضه بحب بيروت.