عن الحرب التي اختطفت أعمارنا

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 نيسان 18 5 دقائق للقراءة
عن الحرب التي اختطفت أعمارنا
© عمل فني لمصممة الغرافيكس منى أبي وردة
كنّا نكاد لا نحتمل انتظار مجيء صبيحة اليوم التالي، على سنواتنا الستّ أو السبع، لنرتدي مراييلنا المدرسية، ونحمل محافظنا الجلدية الثقيلة بما فيها من كتب وزاد وهواجس ترافق تفتّح أعمارنا الصغيرة على عالم مدهش بألف لون ولون، لننطلق إلى مدارسنا حيث كنّا نحتلّ المقاعد الخشبية التي استهلكتها من قبلنا عشراتُ الأجيال. فالطفلة الصغيرة التي كنّا، كانت تجد مكانها في المدرسة، على عكس بيتها الضيق حيث يتكدّس الأبناء والأثاث والأهل القادمون من زيارات بعيدة إلى العاصمة بيروت، فلا يبقون متسعاً للأقدام الصغيرة حتى لتدوس الأرض.
أمرّ بيولّا في بيتها الذي لا يبعد عن بيتي كثيراً، وأحبّ أن أجلس معها في الباحة الخلفية الصغيرة حيث تظلّلنا شجرة الأكادنيا الوارفة التي نأكل من ثمرها أحياناً، فيما أعيننا على الثقب الذي وُضعت فوقه بلاطة تمنع الجرذَ اللعين من الخروج إلينا وبثّ الذعر في قلبينا، قبل أن نترافق مشياً إلى المدرسة حيث نجلس جنباً إلى جنب في المقعد الخشبي الذي يتسّع لاثنين. أقول ليولّا إن ابراهيم يتحيّن كلّ فرصة للوقوف وراءنا، أو للّعب بالقرب منّا، فتضحك جديلتاها الطويلتان وعيناها الواسعتان السوداوان، قبل أن يفاجئها الخوفُ الذي لطالما بثّته أمّها بين أضلعها حين أخبرها بأن فيروز اللئيمة حشرتني في الملعب قبل أن تقذفني بتهمة وقوع ابراهيم في حبنا معاً.
تستحلفني يولّا ألّا أفشي سرّنا، لكني أفشيه فور وصولي إلى المنزل حيث أجد أمي جالسة على الشرفة تخيط لنا، فأتقدّم منها وساقاي تصطكان ولساني يتلعثم لأخبرها بأن ابراهيم أخبر فيروز اللئيمة أنه يحبنا، يولّا وأنا. لا تضحك أمي حين ترى جدّيتي وارتباكي، بل تبقى عابسة، ثم ترفع عن كاهلي طنّاً من الهمّ إذ تجيب بأننا إنما يجب أن نتحابّ في المدرسة وهذي الأصول، وما على فيروز سوى أن تقفل فاها. أخبر يولّا بذلك مهلّلة، وأشعر أنها تصدّقني وأني صديقتها وأهلها، وننمو هكذا، مترافقتين متلازمتين، إلى أن يفصلني عنها انتقالي إلى مدرسة أخرى، بعد الشهادة الأولى.
نفترق لسنوات، ثم تشتعل حربنا الجميلة، فأغيب أنا في قريتي عاماً أنزل بعده إلى العاصمة للدخول في ثانوية رسمية حيث ألتقي مجدداً بيولّا التي قُصّت ضفيرتاها وامتلأت عيناها بندىً لم يفارقهما يوماً وجعل في مقلتيها الجميلتين التماعة هي بين الحزن والطراوة. كان والدها التي كانت تحبّ وتشبه، قد اختطف على أحد الحواجز، في طريقه من جزين إلى العاصمة، فلم يبق منه إلا سيارته الحمراء اللون، وأخبار متضاربة عن أماكن اختطافه في ذلك السبت الأسود، والجهات الخاطفة التي قد يكون قد سيق إليها. تخبرني يولّا بذلك كلّه، بذلك الزلزال الذي ضرب بيتها، ببحث أمّها المستمرّ عنه، وبمصرع تلك الطفولة التي كانت لأخواتها اللواتي كنَّ في عمر لا يفقهن فيه معنى الكارثة، وأرى في نظرتها، منذ ذلك اليوم، شيئاً من انكسار لن تمحوه أبداً ابتسامتُها المشعّة ولا حبّها الاستثنائي للحياة.
عندما انفصلنا أيام الجامعة، وذهبت كل منا إلى اختصاصها، بقيت أطلّ على يولّا التي بدأت تعمل لتساعد في إعالة العائلة، متلفّظة بقسمها الذي كان يجفل قلبي في كل مرة أسمعه منها. «بغربة أبي» تقول، فأتساءل سرّاً إذا كانت حقاً تؤمن بأنّ أباها لم يزل حيّاً يرزق، أم أنها طريقتها في درء الموت عنه وعنها، وكيف أنها لم تفكّر بكونه قد قتل ربما على حاجز مسلّح، كما قتل المئات غيره، فرميت جثته ولم يعثر على أثر له. لكنّ يولّا بقيت تأمل، إذ بقيت بعض الأخبار تردهم من هنا وهناك، فيدفعون المال، ويتقصّون، ثم يموت الأمل من جديد حين يتضح ألا شيء وراء الوعود، سوى أكاذيب وأوهام.
عام 1985، غادرتُ لبنان إلى باريس لمتابعة دراستي، وذات صيف، قالت لي يولّا إنها تفكر باللحاق بي، كانت هذي المرة هاربة من ضيق خناق أمها، وضغطها، وكرهها للآخر الذي اختطف زوجها، ومن عمرها هي إذ كبر وثقل عليها. قلتُ لها: اشتري بطاقة السفر وأنا في انتظارك. وهكذا كان، سافرت يولّا إلى باريس، وهناك ولدت ثانية، انخرطت في العالم، والتقت بالآخر الذي رسمته الحرب لها غولاً وتصالحت معه. ثم صارت شيئاً فشيئاً، تكره سماع أخبار لبنان، وتكره أن تذهب إليه، حتى انقطعت عنه تماماً، ولم يُعدها إليه إلا حماستي عام 2005، ونزولنا في التظاهرات معاً.
 
بعد ظهر كل اثنين، تسير إلى جانبي، نحرّك أعلام لبنان، ونهتف، ونحضر اجتماعاتٍ بالقادمين من هناك ليضعونا في الصورة، وليشعرونا أننا ذوو مشورة واعتبار. أستغرق أنا في حماستي وفي التحليل، وأستفيض في كيف أننا نعيش لحظة تاريخية، لن تتكرّر، وفي أننا أخيراً استفقنا كشعب، واتّحدنا، وتنظر هي إليّ من تلك المسافة الثابتة التي وضعتْها بينها وبين البلاد، هي التي لم تأمن البتة لمن سلبها طمأنينتها ومراهقتها، وألقاها من ثم في أتون الفقد والعذاب.
كان ليولّا، على الرغم من حذرها الكبير، مقدرة على السعة والسماحة وقبول الآخر، الفرح لفرحه والحزن لحزنه، وكان هذا يضيف إليها قوّة وطاقة لم تكونا في متناول أي كان. ومع انطفاء ثورة الأرز، كنت أقرأ في نظراتها إليّ: ألم أقل لك ألا خير ننتظره من هذي البلاد، وكان ذلك موجعاً لي بقدر ما كان صحيحاً ومفحماً، أنا التي لم أتمكّن مثلها من قطع حبل السرّة، والانفصال عن البلد المعوّق الذي ملأنا، منذ وعينا الدنيا، أشجاناً وخسارات.
أذكر أني، ذات مساء صيفيّ، وكنا جالستين في إحدى ساحات باريس الجميلة، نحتسي كأسي نبيذ ونتسامر في أمورنا الصغيرة، قلت لها هكذا فجأة ومن دون مقدمات: ألا تعتقدين أن الوقت قد حان لدفن أبيك؟ فالتفتت إليّ، غير متفاجئة، وقالت وهي تهزّ برأسها: بلى، أعتقد أن الوقت قد حان. 36 عاماً مرت على غيابه، وهو عمره تقريباً حين اختطف... ثم بكت وأردفت بصوت مخنوق: «رحمك الله يا والدي».
دفنّا والد يولّا معاً، في ذلك المساء، وبكت هي وبكيتُ أنا على ذلك الرجل الأسمر الشاب الذي انقصف عمره هكذا، وقد بتنا اليوم أكبر منه. ثم عدت أنا إلى لبنان مرغمة، ومرضت يولّا في غيابي وأكل المرض رئتيها، لكنه لم يقدر على صوتها الفتيّ ولا على ابتسامتها وإيمانها بالحياة. وقبل أيام من موعدي معها في باريس، توفّيت ودُفنت هناك، تحت شجر وارف في منطقة قريبة من سكن أختها، ولم أحضر دفنها ولم أزر قبرها، لكنّي ما زلت كل يوم أخاطبها وأحنّ إليها، متناسية أنها لم تعد من هذي الحياة.
A+
A-
share
نيسان 2018
أنظر أيضا
24 آذار 2021 بقلم مكرم رباح، محاضر في التاريخ في "الجامعة الأميركية في بيروت"
24 آذار 2021
بقلم مكرم رباح، محاضر في التاريخ في "الجامعة الأميركية في بيروت"
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
01 نيسان 2017
01 نيسان 2017
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد