رحيل بذاكرتين

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 17 6 دقائق للقراءة
الشارع في السادسة صباحاً، علامة لسكون الحياة في تلك الأحياء التي اعتادت أخذ النظرات لتفاصيلَ من الطرقات، والشرفات، والنوافذ. يبدو الحي من شرفة المنزل مجرد علب كبريت متلاصقة، تربطها كابلات الكهرباء بعضها ببعض، تصنع بيت عنكبوت كبيراً يسمى الأحياء الشعبية، الطرقات المليئة بالمارة، تفاصيل الوجوه المقهورة، التعِبة، والتي تسير بخط واحدٍ جيئةً وذهاباً، الكتابات على جدران المنازل للعاشقين الذين أتعبهم السير على دروب المدارس أو مورد الصبايا على عين ماء.
قرب الحنين لكلّ شيء يبدو وجه أبي حسن خابيةً قديمة عليها نقوش لتفاصيل حكايةٍ أطول مما نستطيع العد، الرجل الذي شاخ كأن الحياة أكلت جنبات جسده، أتلفته وهو يرتب أصص الزهر على حافة الشرفة الحديدية، حيث يحلو له سرقة الهدوء والدخول به كحليف للصمت، مع فنجان قهوته وصوت خفيض من المسجل يبث أغاني فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين، مراقباً خطوات أم حسن التي كبرت بجانبه وثلاث زهراتٍ في الداخل هم حصاد العمر وغلته.
أفراد تلك العائلة لم يعنِهم في الحيّ أي الأمور التي تصل إلى قمة غينيس، أو قمم الأمة العربية، كانوا أناساً يُسمّون الأمور كما يجب، السترة، الحائط، والعمل، من شبابيك بيته المؤلف من طابق واحد، تبدو الحياة أشبه بسباق تتابع، ينطلق الأب من الفجر مع عربة الفول، حيث اهتم برائحة الكمون والبصل المقطع والغاز المتقد على عيار هادئ، والبهارات التي تترك طعماً يربطك بالمكان، تكاد لا تنسى زاوية يقف عليها أبو حسن، ليصل إلى الظهيرة حيث خروج بناته من المدارس، وفي الليل آلاف القصص التي ورثها عن الجدات والأمهات والأرض التي لم تورثه سوى عربة للتعب، وعائلة للسعادة.
تخرج بناته الثلاث كلّ يوم إلى المدارس، تخرج معهن دعوات الأم، كأن المئة مترٍ هذه، درب غابة موحش، مقفر من كلّ شيء إلا رحمة الله. في المدرسة تبدو الأيام متشابهةً، أسرار الفتيات، الأحلام المتوزعة على رفوف وأدراج تعلو وتهوي، بعضهن يحلمن بجامعاتٍ أبعد من حيّ يصمت صباحاً ويحيا حتى الساعات الأخيرة من المغيب، والأخريات يحلمن بفارسٍ من لحم ودم، يمتطي صهوة حياةٍ سعيدة، بكلّ ما تعلمن في ساعات الحساب والقراءة واللغات والرياضة. كنَّ ثلاث وردات في بيدر العمر الذي يتلخص بوجهين تعبين، يحملان اسم حسن الذي لم يأتِ .
الأم تنشر في جنبات الحيّ رائحة الطهو، رائحة البهار المزكّية لأكلات تقليدية، للمجدّرة التي تتوسط السفرة بين لبنٍ وبصلٍ وخبز، لشوربات في شتاءٍ يمرّ كأنّه عدو أليف، يعرفونه جيداً، يعرفون تحركاته، يجبرهم على هجر الشرفة، إلا أنه يتكفل بالأصص التي تربت مع كلّ دعاءٍ، مع كلّ تفصيل مرت به عائلة بنت بيتها على الحب، والدفء، كانت الأرض تتسع لوجباتهم، يتربعون على فُرشٍ إسفنجيةٍ، في متربع شرقي، يرسم دائرةً حول المدفأة التي تجمعهم حولها كجوقة تتفق قبل الدخول إلى المسرح، تضع مواثيق عن المساندة، والكلّ للواحد.
 

صندوق الظلال، عمل فني لأحد الأطفال المشاركين في مشروع «فرصة» الذي نظمته جمعية «البحث عن أرضية مشتركة» Search For Common Ground ضمن ورش عمل للرسم تهدف إلى الدمج بين البيئة المضيفة والبيئة الحاضنة من خلال الفنون.


تغسل الأمطار الحي دفعةً واحدة، رائحة التراب ترسم خط حياة في صمت وفي صخب، البرد يترك حمرة كأنها الخجل على الوجوه، تصبح العربة المتموضعة على الزاوية ملاذ دفء للهاربين من الجحيم القارس، وأبو حسن جالس قربها واضعاً الحطب في تنكة مهترئةٍ كالعمر كلّه، ككلّ دروب الرحلات التي عاشها، طفلاً وشاباً وكهلاً، وصاحب عربةٍ تعيل عائلة يدفعها نحو قمة الراحة، بكلّ أمانةٍ وإخلاص.
نفث دخانه في شرفةٍ أخرى وهو ينظر إلى دربٍ جديد، دربٍ في بلد جديد غير الذي كدّس فيه الفرح والذكريات، مضت سنوات الحرب عليه كالرحى، نهشته الأحزان على ما فارق والراحلين كلهم، كيف سوّت القنابل والصواريخ والسيارات المفخخة كلّ شيء، صارت الزوايا تخبئ قتلة من كلّ الأشكال، ضاعت في زحمة المجنزرات والعيارات النارية كلّ تفاصيل الحب التي تربطهم بمكانهم الأول مسقط الرأس، و ما تحمله ريح الأيام الأخيرة في هذا المكان.
مرت الصورة قاسيةً كأنّها الموت، قبل الوصول هذا، وقبل المحاولات التي جعلوها نصب أعينهم في المكان الجديد، كان آخر ما يذكرونه من صورٍ في أراضيهم، أنّ الحافلة تتهادى كأنها عربة بيد طفلٍ أتلفها من كثرة اللعب وصارت تعد ثوانيها الأخيرة، استدار الجميع نحو أرضهم كمن يودع ميتاً قبل التراب بلحظة، صفير القذائف، دوي القنابل، تتساقط في القلب كأنّ الأرض موزعة على بشر سمرٍ لا يجيدون العد للعشرة قبل الحب، لا يجيدون ترك الله وحيداً، لا يجيدون الهرب إلا جمعاً.
الطريق طويلة نحو لبنان، كان عليهم مقابلة كلّ الوجوه التي أجبرتهم على الرحيل، بكلّ أشكال أعلامهم، كان يكفي أن يقول أحدهم «شو كان صار لو هالولد ما عمل هيك» لتصد عاصفة صوت موحد «قدر الله وما شاء فعل»، وفي صمت كلّ واحد منهم إدانة للجميع من الجميع، بأنّهم ضحايا الأخطاء كلها، خطأ الأهل، وخطأ الأرض، وخطأ القادة والشاب الذي طعن القلب، وترك لهم طلة أخرى في حافلة تتهادى على طريق لبنان.
صمتٌ ثقيل يمر في هذه الليلة، ثمة وداع آخر عليهم فعله، وذاكرة أخرى عليهم العيش معها، رحتلين.
هنا، صارت البيوت أقرب إليهم، صاروا أولاد المكان، جيرة جديدة لأناس يعرفون أي الوافدين هم، وأي الحزن لهم وعليهم، وأي النوافذ التي يفتحونها ليعود شيء من حيّ قديم كانوا فيه.
رتّب أبو حسن حياته على عربة ذرة وفول وترمس، صار يشدُّ الفرح في طرقات جبلية، قرب مدارس لإيوائهم، قرب أناسٍ ينظرون في قلوب بعضهم البعض لكي لا ينطفئ الحزن على ما فقدوا هناك، إلا أنّ المكان صار هويتهم التي لم تجبرهم كما قبلاً على ارتجاف ما.
بناته صرن أجمل من كلّ ما قاساه، صارت المدارس تخفف حزنه، الطرقات التي يمشي عليها الجميع، إلى الجميع، صارت الحياة نوافذ مشرعةً للأمل، أقاموا في المكان كلّ ما يشبههم، طهوَ نسوتهم، ملابسَ صغارهم، لهجتهم، خجلهم، وعيونهم التي بدأت تنسى أي الحزن كان مخصصاً لها.
المدينة بكلّ ما فيها من خوف ألفتهم، تصالحت مع الوجوه الجديدة، مع صرخاتهم للرزقة، عمال دهان وكهرباء وبائعي عربات، تصالحت مع كلّ الذي مرّ قبلاً كما لو كان لقوم آخرين، صارت الحياة معاً، أو على الأقل، هكذا صارت أيام أبي حسن تمر، معاً من دون حزن أو خوفٍ أو ارتباكاتٍ لهوية ما زالت بين أيديهم.
كلّ ما في الأمر أنّه ملّ من دفع الثمن لخطيئة لم يقترفها، ولا جيرته التي شاركته الحافلة أول مرةٍ وستشاركه الثانية، لملم الجميع أشياءهم، وضع أبو حسن أغراض بيته الثاني على العربة التي تهادت على الطريق نحو المستقر الجديد، صارت لعنتهم تتكرر، كلما همّ شخص بطعن قلوبهم، يرحلون ولا أرض معهم، صارت رحلة الخوف وما بينها من راحة مؤقتة تجبرهم على الركض نحو خلاص مهما يكن، وقفة الراحلين تندب الفتاة التي كانت صورتها حزن الأرض كلّه، كانت ابنتهم وقريبتهم وجارتهم وصاحبة هوية لا تربكهم، كانت ابنة أهل لهم، التفت أبو حسن ونحيبه يكاد يغطي صوت الجميع، والآه لا تخرج، كرجلٍ بقلبين، الأول ينبض في زاوية قديمة، والآخر ينتظر مستقره الجديد.

A+
A-
share
كانون الأول 2017
أنظر أيضا
24 آذار 2021 بقلم مكرم رباح، محاضر في التاريخ في "الجامعة الأميركية في بيروت"
24 آذار 2021
بقلم مكرم رباح، محاضر في التاريخ في "الجامعة الأميركية في بيروت"
01 نيسان 2018
01 نيسان 2018
01 نيسان 2017
01 نيسان 2017
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد