من أراد أن يكون كبيراً... فليكُن خادماً

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 17 6 دقائق للقراءة
من أراد أن يكون كبيراً... فليكُن خادماً
أوصى الرسول بولس أهل روميّة، عظمى مدن ذلك الزمن الغابر، أن يعكفوا على «ضيافة الغرباء». وقصده من ذلك ضيافة الفقراء الذين يجدون أنفسهم مرميّين في شوارع مدينة تتعالى عليهم وتنبذهم بكبريائها البارد كرخامها ومرمرها.
ويؤكّد بولس في خطابه إلى أهل روميّة العظمى أنّ خلاصة الشريعة كلّها كامنة في تحقيق الوصيّة بـ«محبّة القريب»، فهو يذكّرهم بـ«أنّ الوصايا كلّها متضمَّنة في هذه الكلمة أن أحببْ قريبك كنفسك. إنّ المحبّة لا تصنع شرًّا بالقريب، فالمحبّة إذًا هي الناموس بتمامه» (13، 8-10).
لكن مَن هو القريب الواجبة محبّته؟ يؤكّد السيّد المسيح، في مثل السامريّ الصالح (لوقا 10، 25-37)، أنّ القرابة ليست هي القائمة على الانتماءات العائليّة أو القوميّة أو الطائفيّة، أو على أيّ عصبيّة أخرى، بل هي القرابة التي تنشأ في ظرف معيّن عندما يلتقي المرء بمَن يحتاج إلى مدّ يد العون إليه. القرابة، إذاً، في هذا المقام، ليست «قرابة اللحم والدم». القرابة صيرورة تحكمها «الرحمة». كلّ عابر سبيل، أو نازح، أو مهجّر، أو غريب، أو مستضعف في الأرض يصبح هو القريب. واللافت هو أنّ السامريّ، المنبوذ من المجتمع اليهوديّ، لم يتابع طريقه حين رأى اليهوديّ الواقع بين أيدي اللصوص، بل توقّف وأرجأ كلّ مشاريعه عندما شاهد مَن هو بحاجة إلى إسعاف، ذاك اليهوديّ الذي يعتبره عدوًّا وهرطوقيًّا، مشرفًا على الموت. فقام السامريّ بواجبه من دون النظر إلى هويّة مَن هو بحاجة إليه.
ليس لنا أن «نرضي أنفسنا». يقول بولس نفسه لأهل روميّة العظمى، بل «فليرضِ كلّ واحد منّا قريبه للخير، لأجل البنيان». يبقى إرضاؤنا لله بلا معنى وبلا جدوى إن لم نرضِ القريب، وبخاصة ذلك الغريب «الذي وقع بين أيدي اللصوص». بل بين أيدي الطغاة والقتلة والسفّاحين. الصلاة والصوم وكلّ عبادة، إذًا، تصبح باطلة إنْ لم يكن هدفها خدمة الإنسان واحتضانه في أزمنة الشدّة والضيق.
المسيح نفسه ساوى نفسه بالغريب، وربط الخلاص بوصيّة المحبّة الواجبة على المؤمنين. فعندما تحدّث عن ميزان الدينونة في اليوم الأخير جعل محبّة الإنسان لأخيه الإنسان هي المقياس الأساسيّ، وأوضح أنّ مَن يحبّ المسيح لا يكون صادقًا إن لم يحبّ الإنسان الساكن المسيح فيه، أي المريض والجائع والفقير والغريب والأسير: «لأنّي جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعُدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ» (متّى 25، 35-36). ويمكننا، هنا، أن نستعين أيضًا بفاتحة الموعظة على الجبل التي فيها يمنح المسيح الطوبى للمساكين بالروح، والودعاء، والمحزونين، والجياع والعطاش إلى البرّ، والرحماء، وأطهار القلوب، والساعين إلى السلام، والمضطهَدين على البرّ (متّى 5، 1-12)، لكي نؤكّد أنّ المسيح، في النصّين معًا، تكلّم على أهميّة الخدمة المجّانيّة والمحبّة والرحمة ما بين البشر في سبيل بلوغ الخلاص.
لقد ساوى يسوع نفسه بالمستضعَفين من كلّ الأمم، وقال بوضوح إنّ مَن يصنع الرحمة إلى هؤلاء، فكأنّما صنعها إلى الربّ نفسه. والنصّ الحاضر لا يشير إلى شرط الإيمان بابًا إلى الخلاص، علمًا أنّ ثمّة نصوصًا أخرى تؤكّد على شرط الإيمان بابًا إلى الحياة الأبديّة. لذلك، لم يُشر النصّ إلى الهويّة الإيمانيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة لصانعي الرحمة، «حينئذ يجلس ابن البشر على عرش مجده، وتُجمع إليه كلّ الأمم»... والمقصود بالأمم اليهود وكلّ الديانات الأخرى الموجودة في العالم. وكانت الأمّة تعني، آنذاك، الأمّة الدينيّة، وكان اليهود يرفضون أيّ علاقة بينهم وبين الأمم، فأتى يسوع ورفع الحواجز ما بين الأمم ودعاها كافّة إلى قبول الخلاص... وقد قصد أيضًا أن يقول لليهود، بني أمّته، إنّ ثمّة أناسًا صالحين في الأمم الأخرى، سوف ينظر الربّ إليهم بعين الرأفة.
ويسعنا أن نقول أيضًا إنّ الإنسان هو المكان الذي يفضّل الله أن يُعبد فيه. فالإنسان الساكن الله فيه هو أبهى من الهياكل والكنائس والمساجد. أن تخدم الله هو أن تخدم الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه، فـ«إنّ روح الله ساكن فيكم». لذلك يصبح الإنسان هو القِبلة والمحراب. يصبح الحجّ إليه بمثابة الحجّ إلى الأماكن المقّدسة، إلى قبر المسيح. فالله لا يسكن في حجارة مرصوفة ولا يؤويه سقف، هو يفضّل السكن في القلوب الدافئة. «أعطني قلبك وكفى».
يعتبر التراث المسيحيّ أنّ «السامريّ الصالح ليس سوى المسيح نفسه». فالمسيح هو القريب الكامل الذي أرسله الله ليضمّد جراحنا، وليخلّصنا من قبضة الشرّير ومن ظلام الموت. وقياسًا يسعنا أن نرى المسيح ذاته في كلّ مَن يُطعم جائعًا ويسقي عطشانَ ويكسو عريانًا ويؤوي غريبًا ويعود مريضًا ويزور سجينًا. وانطلاقًا ممّا قاله القدّيس الرسول بولس: «فأناشدكم أن تقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح» (1 كورنثوس 4، 16 و 11، 1)، يدعونا أوريجنّس الإسكندريّ (+235) إلى الاقتداء بالسامريّ الذي هو صورة المسيح، فيقول: «يمكننا أن نقتدي بالمسيح وأن نشفق على الذين وقعوا بين أيدي اللصوص، ونذهب إليهم، ونضمّد جراحهم، ونسكب عليها زيتًا وخمرًا، ونحملهم على دوابّنا، ونرفع عنهم أعباءهم».
يؤكّد الإنجيل في مواضع عدّة على أنّ الاقتداء بيسوع يقتضي من المسيحيّ أن يسلك سلوك العبد الخادم لإخوته، لا سلوك السيّد، حتّى وإنْ كان سيّد قومه بمقاييس زماننا الحاضر. فالمسيح، السيّد القدير، بعد أن غسل أرجل تلاميذه في الليلة التي أُسلم فيها إلى الصلب، توجّه إليهم قائلاً: «أنتم تدعونني معلّمًا وربًّا، وحسنًا تقولون لأنّي كذلك. فإذا كنتُ أنا الربّ والمعلّم قد غسلت أرجلكم فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأنّي أعطيتكم قدوة حتّى أنّكم كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا» (يوحنّا 13، 13-15).
السيادة في المسيحيّة ليست للسلطة ولا للقوّة ولا للمال، السيادة لا تتحقّق بسوى المحبّة والتواضع وطاعة كلمة الله، وخلاصة هذه كلّها الخدمة المجّانيّة حتّى بذل الذات. السيّد الحقيقيّ هو مَن اختار أن يكون خادمًا للفقراء والمساكين والنازحين والمهجّرين والمشرّدين واللاجئين وكلّ المعذَّبين. والمسيح نفسه يقول: «مَن أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّلَ فليكن للجميع عبدًا. فإنّ ابن البشر (المسيح) لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين» (مرقس 10، 43-44).
المسيح هو الغريب، وهو، في الآن عينه، مَن يصنع الرحمة إلى الغريب. فحين نصنع الرحمة إلى المستضعَفين فكأنّنا نصنعها إلى المسيح نفسه، وفي الآن عينه، يسعنا أن نقول إنّ كلّ مَن يصنع الرحمة إنّما يقتدي بيسوع نفسه، يصبح على صورة المسيح ومثاله. في هذا الصدد يقول القدّيس أبيفانيوس القبرصيّ (+403) في شرحه هذا القول: «أيجوع ربّنا ويعطش؟ أيعرى، هو غير المتغيّر في طبيعته، الذي خلق ما في السموات وما على الأرض، الذي يغذّي الملائكة في السموات، وكلّ أمّة وجنس على الأرض؟ لا يعقل أن نظنّ ذلك. الربّ لا يجوع في جوهره، بل في قدّيسيه؛ لا يعطش في طبيعته، بل في الفقراء».
نحن مدعوّون، إذًا، إلى أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان المعاصر مع متاعبه وجراحاته ومشاكله الكثيرة، وأن نرى عوزه وقهره، ولا سيّما هموم الناس في أزمنة الحروب والتهجير. فنلتزم الاهتمام بهم ومساعدتهم إلى حين انقضاء الأزمنة الشرّيرة. فأن نحبّ الله يفترض حكمًا أن نسعى دائمًا إلى تنفيذ الوصيّة الوحيدة التي أمرنا أن نهتدي بهديها: «أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم» (يوحنّا 15، 12). أن نحبّ الله يقتضي أن نحبّ الإنسان أوّلاً، كلّ إنسان.


A+
A-
share
كانون الأول 2017
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد