قبل زمن قاومت المنطقة الوجود السوري ليبقى خارج أسوارها، وقد رفعت راية المعارضة لوقت طويل شأنها شأن الجارتين جبيل والمتن. أما اليوم، فيعبّر أهلها عن استياء من سياسة لبنانية عامة وكسروانية خاصة، أدت إلى تغلغل «السوري» في القرى والأحياء، وبات له «وجود» بفعل الأمر الواقع.
هكذا لم يكن الكسروانيون بحاجة إلى المواقف الرسمية الأخيرة - المطالبة بعودة النازحين إلى قراهم ومدنهم الآمنة في سوريا - لبلورة امتعاض أو معارضة، ولو أنها ساهمت في ارتفاع حدة الخطاب.
بيد أن الكراهية الممارَسة بالجملة يقابلها رضى بالمفرّق، بفعل «المصلحة» تارة و«العلاقات الخاصة» تارة أخرى. والمقصود بذلك دفاع بعض أصحاب المؤسسات عن استخدامهم لعمال سوريين أو بعض الأهالي عن جيران ومستأجرين سوريين. وكل قصّة «ودّ» من طرف يقابلها قصّة «ودّ» من الطرف الآخر، وكلّ حديث يحمل في طيّاته «كراهية» تقابله «كراهية».
«سوريو» كسروان
لم يأت السوريون إلى كسروان إلا بسبب العمل، فهم على الأغلب قد سمعوا بمقولة «الغريب» التي يشتهر بها الكسروانيون. قبل الحرب في سوريا أتوا إلى القضاء للعمل في ورش البناء. هم أنفسهم تحوّلوا بعد اندلاع الحرب إلى عمال - نازحين، ساعدوا سوريين آخرين في التمركز في الأعالي الكسروانية، هذا بالنسبة إلى المسلمين منهم. أما المسيحيون السوريون فقد اختاروا المنطقة للاعتبارات الدينية.
تقول راغدة التي نزحت وعائلتها في العام 2013، إن زوجها لم يشأ أن يلجأ إلى مناطق أخرى ذات الغالبية المسلمة. ومع أن الدين يجمع العائلة بالمنطقة، وتحديداً بجونية «لم تكن الحياة سهلة في البداية، فبقينا حتى أمس قريب أولئك السوريين الذين سيقضون على خيرات هذا البلد. ولم يتبدّل الوضع إلا بعد خطوات إيجابية عديدة قام بها الثنائي تجاه الجيران وأصحاب العمل حيث يعملان». لهذه الأسباب جاهد صاحب المتجر حيث تعمل لتسجيل ابنتها في إحدى المدارس، بعدما امتنعت مديرة المدرسة الرسمية عن استقبالها بداعي اكتمال العدد.
وراغدة شأنها شأن كثيرين من السوريين لم تنتظر طويلاً قبل الحصول على عمل «فأصحاب المتاجر والمؤسسات يتلقفوننا طالما أن تقديمات ربّ العمل للعامل تبقى في حدودها الدنيا». هي وتقول: «أعرف سوريين كثراً حلّوا مكان لبنانيين في سوق العمل وهذا ما يزيد من كره اللبناني لنا، علماً أننا لسنا من أجبرنا أصحاب العمل على توظيفنا».
وتختلف نوعية الأعمال التي يقوم بها السوريون في الأعالي الكسروانية حيث يعمل الذكور من مختلف الطوائف والملل بالزراعة والبناء، لا تتبدّل النظرة إليهم وتحمل اللبناني على اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر. ففي حراجل كما في فاريا وجعيتا ويحشوش وحتى الصفرا وغيرها من القرى والبلدات «كلّ سوري متهم بنية السرقة أو التحرّش حتى إثبات العكس». ولهذا فإن بعضهم نال نصيبه من الضرب بمجرّد أن رفع رأسه. وهنا يقول طوني من حراجل: «ليس خطأ أن تقابل أي خطوة مشكوكة بضرب يكون وقائياً من تمرّد نحن بالغنى عنه».
عبء اقتصادي واجتماعي
من المدن الساحلية الكسروانية حتى أعلى قمم صنين، ومن نهر ابراهيم شمالاً ونهر الكلب جنوباً، لا يبدو أي مواطن لبناني، يستعين بعامل أو عاملة من سوريا، على استعداد للتخلي عنه أو عنها. في البناء، وفي الزراعة، كما في التجارة والمخابز والحياكة يبقى السوريون اليدّ العاملة الأقل كلفة نظراً لتوفّرها ولغياب الضمانات الاجتماعية والصحّية. هكذا يستفيد اللبناني من النزوح السوري بصفة شخصية بحتة.
يقابل هذا عبء سوري لا يخفى على أحد، يلقي بثقله على البلدات والقرى، والتي هي غير مشمولة بشكل جدّي ببرامج ومساعدات الدول والمنظمات الدولية. فقضاء كسروان يختلف عن بعلبك والهرمل وعكار وغيرها من الأقضية حيث مخيمات النازحين وتجمعاتهم. لذلك يتحدث بعض رؤساء بلديات كسروانية عن أعباء أقتصادية منهكة، وتغيّرات اجتماعية بدّلت في الصورة المعهودة للأحياء والشوارع. «منذ متى نرى محجبات في جونية؟» تشير لين باستهجان «وبيوت وأبنية مكتظة بعائلات تتشارك المسكن الواحد». تلك الشكوى تتنامى مراراً وتكراراً إلى مسامع المجلس البلدي في زوق مكايل، تضاف إليها شكاوى كثيرة من «تكسير مزارات وتجوّل نازحين بخناجرهم وتجمّعهم على طرقات الأحياء والساحات ضمن حلقات لشرب الأرجيلة...» وفق ما يقوله نائب رئيس البلدية بيار الأشقر.
يتوافق الأشقر مع رئيس بلدية جونية جوان حبيش ورئيس بلدية فاريا ميشال سلامة بالإفصاح عن أن البلديات عاجزة عن إحصاء أعداد السوريين لديها. يلفت الأشقر إلى أن زوق مكايل تحوي نحو 4500 سوري مسجل لديها بزيادة 500 سوري منذ الصيف الماضي. وهو لا يملك قراءة للأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذه الزيادة في تلك الفترة. ويضاف إليهم عدد لا يعرفه من غير المسجلين لدى البلدية وعدد آخر مسجل لدى «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين» من دون البلدية. في جونية أيضاً لا إحصاء دقيق لعدد السوريين فيها «كونهم في حركة مستمرّة» بحسب حبيش.
وفي حين يؤكد حبيش والأشقر أن لا منع لتجوّل السوريين ليلاً في بلدتيهما، يوضح سلامة أنه منع النازحين «الشباب» من التجوّل بعد السابعة ليلاً باستثناء من يحمل بطاقة عمل ليلي موقّعة من البلدية.
فعلياً، يبدو موضوع التجول ليلاً تفصيلاً بسيطاً أمام البلديات، مقابل ما يتحدثون عنه من فتح مؤسسات تجارية منافسة بإدارة سوريين، وحصولهم على الكهرباء من خلال التعليق على أسلاك البلدية. يعد حبيش في هذا المجال، بأنه سوف يقوم بإقفال 72 مؤسسة تجارية في جونية بإدارة سوريين «لأنهم لا يدفعون المستحقات للبلدية». فيما يحرص سلامة على منع أي سوري من افتتاح متجر في فاريا، أو حتى اقتناء سيّارة تاكسي.
إلى هذا، يتحدث رئيس بلدية فاريا عن جباية عدد من البلديات مبلغاً مقطوعاً عن كل غرفة أو شقة يقطنها سوريون لاسترجاع «ولو مبلغ زهيد» من المبالغ التي تتكبدها البلديات بسبب النزوح مقابل الكهرباء والصرف الصحي وغيرها من الأمور. وإذ يؤكد أنه لا يقوم بهذه الممارسات، يطالب الحكومة بقوننتها لأن الأعباء تتضاعف على القرى والبلدات.
يجتمع المسؤولون في البلديات الثلاث على كمية الشكاوى التي تأتيهم احتجاجاً على نازحين، لكن في المقابل فإن غالبية اللبنانيين تأخذ موقع المدافع إذا ما طالت الشكوى سوريّاً أو سورية تعمل لديهم.
باستثناء المصالح الشخصية التي تربط نازحاً سورياً بمواطن لبناني، فإن النظرة السائدة حول النزوح السوري هي نظرة سوداوية تؤكد على مساهمته بشكل مباشر بتدهور الأوضاع الاقتصادية في هذا المجال، تشير المسؤولة عن أحد المستوصفات الكسروانية، والتي رفضت ذكر اسمها، إلى أن «الجمعيات والمؤسسات الطبية الخيرية في القضاء لا تحصل على أي مساعدات من المنظمات الدولية لمساعدة النازحين أو على الأقل لا تتم مساعدتها بالشكل الكافي. تماماً كما يتم إهمال كسروان لناحية المشاريع الإنمائية التي تقام في مناطق أخرى لاستقبالها أعداداً من النازحين».
أمام هذا «الشحّ» في التقديمات، تلفت المسؤولة إلى أن «البعض يرفض مساعدة النازحين صحيّاً وطبّياً على أساس أن ما نحصل عليه بالكاد يكفي فقراء المنطقة»، لتستدرك قائلةً: عدم مساعدة النازحين لا يشمل أطفالهم.