لكن هذا الاختلاف المتحقق اجتماعياً عبر مفاهيم وادعاءات موروثة يجد مبرراته في المجتمعات المتعددة والمتنوّعة بدعوى الحفاظ على الثقافة والخصوصية والتجانس، وهي دعوى غالباً ما تختبئ خلفها بل وتختلط بها نزعات طائفية ومذهبية وإثنية.
عملياً، تواجهنا إشكالية منذ البداية، إذ كيف يمكن التمييز بين «المشاكل الموضوعية» الناشئة أو المتوقع نشوؤها عن الزواج المختلط بالمقارنة مع المشاكل الموضوعية المشابهة والناشئة عن الزواج المتجانس في حال اعتمادنا متغيرات غير طائفية أو مذهبية أو إثنية مثل الفروقات والتباينات في (المستوى الثقافي أو الاجتماعي والعائلي، أو طبيعة العمل، أو السكن والبيئة الاجتماعية والعادات..).
في الواقع، لا يمكن لأي باحث منصف ومدقَّق أن ينفي أن المشاكل والنزاعات تحصل، وسوف تظل تحصل، ضمن كل صيغ الزواج، يكفي زيارة واحدة للمحاكم الشرعية المختصة بشؤون الطوائف لمعرفة حجم المشكلة والتي ترتبط بمتغيرات تتجاوز متغير الدين أو المذهب أو الجنسية، لذلك سنجد دائماً تجارب ناجحة وأخرى فاشلة في أي نمط من أنماط الزواج، ولكل حالة أسبابها ومحدداتها، وليس من بينها ما يؤكد أن نمطاً معيناً، كالزواج المختلط على سبيل المثال، مصيره المحتم هو الفشل، فمؤسسة الزواج عالم مليء بالخصوصيات والأسرار والنزاعات الخاصة، لكن هل ثمة خطوط وعناصر عامة يمكن استخلاصها كعوامل للنجاح أو للفشل؟.
من أبرز الحجج التي تساق في مواجهة الزواج المختلط أن تضارب القيم المرجعية Reference Values بين الأديان المختلفة والجنسيات المتعددة وما تحمله من ثقافات سيؤدي لا محالة إلى توليد النزاع والخلاف بين طرفي الزواج. إذ أن علاقة الحب التي توحد الثنائي وتعزله عن الواقع في بداية الزواج، سرعان ما تتلاشى أمام حقائق الحياة وإرغامات المحيط ومتطلباته كعائلة وكعادات وتقاليد، فتبدأ المشاكل تطل برأسها داخل بيت الزوجية.
بعض هذه المشاكل والخلافات له طابع موضوعي مثل كل الخلافات التي يمكن أن تنشأ عادة داخل بيت الزوجية، وبعضها يتصل بطبيعة الزواج المختلط ويتشابك مع عناصر أخرى ويترتب عليه مسؤوليات منها ما يتعلق:
- بالزواج المختلط بين مختلفي الجنسية: في مثل هذه الزيجات هناك عدة اشكاليات تحدث، منها ما له جانب قانوني معروف، وتتمثل في نيل الجنسية (صعوبة، مشكلة جنسية الأطفال أو سهولتها، وحرمان اللبنانية المتزوجة من أجنبي من حق إعطاء جنسيتها لأولادها، وهو موضوع حملات إعلامية وتجاذبات سياسية يدخل فيها التخويف من التوطين)، وكلها مسائل يجري نقاش واسع حولها في المجتمع المدني والسياسي، وهناك أيضاً على الصعيد القانوني إشكالية الإرث الذي يطبّق على أساس مبدأ المعاملة بالمثل بين الدول.
يتحدث بعضهم هنا عن تضارب القيم الذي سرعان ما ينشأ بين مختلفي الجنسية من المتزوجين، وهي مسألة تحتمل كثيراً من النقاش في ظل العولمة الثقافية، إذ أن منظومة القيم المرجعية لو كانت متضاربة إلى هذا الحد لما ارتبط الزوجان بالأساس ولما اجتمعا تحت سقف واحد، إلا أن الفكرة تكمن في أن هذا الاختلاف الثقافي من المحتمل أن يجد محفزات له في البيئة الاجتماعية التي يعيش الزوجان فيها، ذلك أن مفهوم الحرية الشخصية والارتباط بالطقوس العائلية والاجتماعية، وقيم العلاقات الأسرية، والعلاقة مع الأولاد وطريقة تربيتهم والتضحية من أجلهم، مختلفة في المجتمعات الشرقية عنها في الثقافة الغربية الفردانية.
في الآونة الأخيرة، ومع تضاعف أعداد النازحين السوريين، ارتفع الحديث بشكل ملحوظ عن ظاهرة زواج اللبنانيين بالسوريات، وهي ظاهرة قديمة وتاريخية بين البلدين، لكنها اليوم تتخذ طابعاً مختلفاً مع النزوح إذ اقترن بالحديث عن الزواج بالقاصرات من دون أن تتوفر إحصاءات دقيقة، لكن أرقام «اليونيسيف» تشير إلى أن نحو 32 بالمئة من حالات الزواج المسجلة لديها بين اللاجئين السوريين في لبنان هي لفتيات تحت سن الثامنة عشرة، وهذا الرقم هو لإحصاء عقود الزواج بين السوريين ولا علاقة لغير السوريين به، وهو رقم يتصل بظاهرة الزواج المبكر والشائع وخاصة في الريف السوري، وما ارتفاعه مع النزوح إلا بسبب الفقر والحاجة إلى الأمان والاستقرار. النزوح السوري وما يتصل به من مآسي استغلال القاصرات للزواج من لبنانيين أو غير لبنانيين يطرح مشكلة إضافية اليوم، وهو ما يعنينا في هذا المقال.
- الزواج المختلط بين مختلفي الدين: لا شك أن العيش المشترك الذي يجمع أبناء الطوائف والأديان المختلفة في المجتمعات المتنوعة يمكنه أن يقرِّب القيم المرجعية الأساسية بينهم، لكن هذا ليس نتيجة حتمية إذ قد يؤدي على العكس إلى الكراهية والتنافس والتعصب. المسألة تتعلق بالدرجة الأولى بقدرة النظام العام على تعميم ثقافة التسامح والعدل والمساواة بين مواطنيه، عندها يصبح العيش المشترك مولّداً لقيم مرجعية مشتركة تقوم على ثقافة المواطنة لا على ثقافة الطائفة أو المذهب.
لكن الأمر في الواقع ليس كذلك، وهو يزيد الفروقات تبايناً من الناحية القانونية بل وحتى الاجتماعية في ظل النظام الطائفي القائم في لبنان والذي ترعى انتظامه قوانين وأعراف راسخة، ففي الجانب التشريعي تتيح قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين تعدد الزوجات والطلاق من جانب واحد وهو ما يعزز القيم الذكورية، خاصة أن الزواج يعتبر عقداً كسائر العقود يمكن الخروج على قيوده بإرادة أحد الفريقين، وهو وضع يختلف تماماً عن واقع التشريع عند المسيحيين. ويزيد الأمر تبايناً من ناحية قوانين الإرث حيث يخضع المسيحيون لقانون مدني هو قانون 1959 يؤمّن المساواة بين الرجل والمرأة، في حين يكرس الشرع الإسلامي قواعد مختلفة للإرث تعطي الأفضلية للذكور، ولو أن الحيل القانونية أصبحت رائجة للتهرب من هذه القواعد كاللجوء إلى تغيير الدين أو المذهب للتمكن من الطلاق بالنسبة إلى المسيحيين، أو كالهبة والحسابات المصرفية المشتركة للبنات لإعطائهن حصة إرثية مساوية لحصة الذكور، لذلك فليس المهم القاعدة القانونية بحد ذاتها بقدر ما هو أثرها الفكري والذهني والقِيَمي.
إحدى أهم المشكلات التي قد تواجه هذا النوع من الزواج المختلط هو ش«التربية الدينية» للأولاد والتي يحاول غالبية الأهل في هذه الحالة حلّها عن طريق تبني «ثقافة علمانية» وتنشئة اولادهم عليها، وهم إن نجحوا بذلك فسرعان ما يصطدمون بثقافة طائفية محمية بالقانون ومسلّحة بمؤسسات عريقة تحاصرهم وأولادهم في كل مكان.
- أما الزواج المختلط بين مختلفي المذهب فلم يعد يثير ردود فعل كما كان في السابق بين المسيحيين ولا بين المسلمين على الرغم من أن بعض الرواسب الثقافية لا تزال تفعل فعلها عند قلة متمسكة بمفاهيم قديمة، لكن الملاحظ أنها عادت لتنتعش ضمن المذاهب الإسلامية في الآونة الأخيرة (السنّة والشيعة والدروز والعلويين) مع تصاعد حدة التجاذبات والخلافات.
ولتجاوز إشكاليات الزواج التقليدي يلجأ بعضهم إلى صيغة الزواج المدني وهو عقد لا يكتسب مفاعيل قانونية إذا عقد داخل الأراضي اللبنانية، لكن المحاكم المدنية اعترفت به على ضوء المادة 25 من القرار (LR 60) إذا عقد خارج لبنان وفق الأصول المتبعة في البلد الذي جرى فيه العقد، لذلك تكاثرت في الآونة الأخيرة الحالات التي تقصد قبرص أو تركيا أو اليونان وغيرها لعقد مثل هذه العقود من الزواج، وقامت الشركات المتخصصة لتسهيل الأمر على الراغبين.
ورغم كل الصعوبات والإشكاليات، تبين بعض الدراسات السوسيولوجية والإحصائية ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد الزواج المختلط بشكل عام، لكنها بين المسلمين والمسيحيين لا تزال منخفضة إلى درجة كبيرة. ففي دراسة أخيرة أجرتها «الدولية للمعلومات» تبين أن عقود الزواج المختلط في لبنان تصل إلى 173.883 عقداً أي ما يمثل 15 بالمئة من إجمالي عقود الزواج المسجلة رسمياً، وهي تتوزع بين (32.231) عقداً بين مسلمين من مذاهب مختلفة و(118.250) عقداً بين مسيحيين من مذاهب مختلفة و(10.797) عقداً بين مسيحيين ومسلمين. من الواضح أن عقود الزواج بين المسيحيين من مذاهب مختلفة تفوق بثلاثة أضعاف مثيلتها بين المسلمين من مذاهب مختلفة أو تستحوذ على نسبة 68 بالمئة مقابل 18.5 بالمئة، في حين تنخفض عقود الزواج بين المسلمين والمسيحيين إلى أدنى مستوى بحيث لا تستحوذ سوى على نسبة 6.2 بالمئة من عقود الزواج الإجمالية.