تمت هذه النقاشات ضمن ورش عمل عقدها فريق مشروع «دار السلام» وضمت إليها أفراداً لاجئين ومضيفين وعاملين في المجال الانساني من مجتمعات محلية. كانت تلك القصص المتنوعة وكل ما احتوتها من مدلولات، مثيرة لاهتمام العديد من المعنيين بالعمل الإغاثي والتنموي، مما دفعنا في دار السلام إلى التفكير بكيفيّة مشاركة هذه المخرجات وتحويلها إلى توصيات تساهم بطريقة ما في تعزيز السلم الاجتماعي في لبنان وسوريا. ومن هنا ولدت «أصوات سورية».
الورقة الأولى التي أصدرها دار السلام تحت عنوان «العادات والتقاليد» - وذلك ضمن سلسة «أصوات سورية» - ورقة أكاديمية تسعى لإعطاء إجابات نهائية عن دور العادات والتقاليد كعوامل سلم أو نزاع للاجئين السوريين في لبنان، بل كانت كما هو عنوان السلسلة - «أصوات سورية» - محاولة لطرح مواضيع إشكالية ومتعلقة بالسلم الاجتماعي وإنما من منظور محلي بحت، يعكس وجهات نظر الأشخاص المعنيين، ويساهم في تقديم أصواتهم وقصصهم كما رووها. زد على ذلك أن عنوان السلسلة ما جاء بهذه الصيغة ليقدم صوت مجتمع واحد - مجتمع اللاجئين - وإنما ليساهم في تقديم منبر لمن ندرت منابرهم - إن وجدت أصلاً - بغض النظر عن جنسيتهم. أما التركيز على هوية اللاجئين فله سببان: الأول معنوي كونهم الشريحة الأكثر تهميشاً، والثاني تقني لأنهم يشكلون غالبية المشاركين في ورش العمل. رغم ذلك، فإن كل القصص والأفكار والنقاشات والتوصيات المقدمة، تعبّر عن وجهات نظر متنوعة تشاركها لبنانيون وسوريون وفلسطينيون وكل من تمكنّا من الوصول اليهم في ورشنا وفي حلقات الحوار الخاصة بها.
ثمة نقطتان تجدر الإشارة اليهما: الأولى أننا لم نقم بدراسة نظرية لتعريف ماهية العادات والتقاليد وتقديم شرح مفاهيمي لها، إنما قمنا بجمع كل القصص التي اعتبر قاصوها أثناء تحليلهم لها أنها متعلقة بشكل أو بآخر بهذه العوامل. ومن هنا كانت القصص التي تم تضمينها مناقشة عادات المجتمع وتقاليده، تروي مواضيع إشكالية متنوعة. فنجد أن كثيراً منها تتعلق بفرص العمل، أو الزواج المبكر، أو عمالة الأطفال، أو دور الشخصيات الاجتماعية في حل النزاعات، ولكن كان للعادات والتقاليد نصيبها أثناء تحليل هذه القصص من قبل المشاركين.
النقطة الثانية تتعلق بالتصنيف أو التعميم. فعند الحديث بالمجمل عن مجتمع لاجىء ومجتمع مضيف، لا نتحدث عن مجتمعين متجانسين داخلياً، ومختلفين عن بعضهما البعض خارجياً، وخصوصاً لناحية العادات والتقاليد. ففي كثير من القصص التي سمعناها اتفق المشاركون على أنه في مناطق عدة كانت نقاط الالتقاء بين بعض السوريين واللبنانيين أقوى من تلك الموجودة بين أولئك الذين يملكون هوية وطنية واحدة. وبالتالي، كان للعادات والتقاليد ذاتها تأثيرات مختلفة في أماكن مختلفة. لذلك لم يكن للسؤال الذي نعالجه جواب واحد. العادات والتقاليد من وجهة نظر محلية بحتة تحمل عاملين: عامل سلم وعامل نزاع في آن واحد.
فمثلاً اعتبر بعض المشاركين أن الزواج المختلط السوري اللبناني كان من أهم العوامل التي ساعدت وسهلت استقبال العديد من العائلات التي نزحت من سوريا إلى لبنان لناحية ايجاد أماكن للسكن، أو حتى من خلال تأقلمهم السريع نسبياً. من ناحية أخرى، اعتبر هذا التقليد من العوامل التي تساهم في زيادة التوتر بين المجتمعين وخصوصاً بسبب التفسيرات والتأويلات المرافقة له (رخص مهر المرأة السورية، مهارتها في الطبخ، قبولها بالزواج المتعدد…الخ).
روت إحدى المشاركات قصة شهدتها في سرفيس بين سيدتين سوريتين وسيدة لبنانية، حيث كانت السوريتان تتبادلان أطراف الحديث حول عودة زوجيهما من العمل، فقامت اللبنانية بالتدخل لتتهم زوجيهما بأنهما قد «سرقا» فرص عمل اللبنانيين، فردت عليها إحدى السوريات قائلة: «مو بس رح نسرقلكن أشغالكن، رح نسرقلكن أزواجكن» مما أدى إلى تطور الخلاف إلى تعارك بالأيدي، ما دفع سائق السرفيس إلى التوقف وإجبارهن على النزول من السيارة. يبدو أن الانطباع العام أن هذا التقليد قد زاد مؤخراً وأنه بات يشكل حساسية واضحة وخصوصاً بين السيدات.
لكن، وبحسب إحدى الباحثات الاجتماعيات التي شاركت في إحدى الجلسات الحوارية، فإنه لا أرقام دقيقة حول حقيقة زيادة الزواج المختلط بين السوريين (الاناث بشكل خاص) واللبنانيين بعد أزمة اللجوء، ولا ندري إن كان الحديث عنها تهويلاً إجتماعياً وإعلامياً محضاً أم أنه يعكس ظاهرة اجتماعية فريدة ومستحدثة.
على صعيد مختلف، كان لتغيير الأدوار ضمن العائلة نصيب كبير من النقاشات في ورش العمل والحلقات الحوارية. فقد اتفقت غالبية المشاركين على أن المرأة السورية وجدت فرصة في مجتمع اللجوء لتدخل سوق العمل وتساهم بدعم عائلتها مادياً، في الوقت الذي يعاني الكثير من الرجال من إمكانية إيجاد فرص للعمل والتنقل داخل الأراضي اللبنانية. وبما أن عمل المرأة يتنافى مع عادات بعض المجتمعات، فإنه أدى إلى العديد من الاضطرابات ضمن الأسرة الواحدة، رغم أنه كان الملاذ الوحيد لهم.
في هذا السياق، عبّرت سيدات سوريات كثيرات عن أنهن اكتسبن ثقة كبيرة بأنفسهن نتيجة البرامج التي شاركن فيها مع بعض المنظمات والجمعيات الانسانية، وأصبحن يشعرن بشيء من الاستقلالية والقوة اللتين لمسناهما عند المرأة اللبنانية. كذلك ذهب بعضهن إلى القول أن العديد من النساء اللواتي كن يطمحن للطلاق ولم يجدن له سبيلاً في وقت سابق، أمسين أكثر حرية للمضي في هذا الطريق للتخلص من القمع الذي كنّ يعانين منه. وفي سياق متصل، روى البعض قصصاً عن رجال أجبروا نساءهم على الانسحاب من بعض الدورات، وطالبوا المنظمات العاملة في مناطقهم بوقف حملات التوعية التي يقومون بها لأن النساء أصبحن «أكثر عصياناً».
من جانب آخر، أوضحت بعض المشاركات أن عمل المرأة أضاف أعباء جديدة عليها وأفقدها - ما كانت تعتبره سابق - حظوةً أو «دلالاً» حين كان الرجل يتولى أمور تأمين المعيشة في حين كانت هي متفرغة لمسؤولية تربية الأولاد - همّها الأساسي - ورعاية المنزل.
أما عن موضوع الزواج المبكر - الذي تكرر ذكره كثيراً - فإن معظم المشاركين اتفقوا على أنه يعد من أكثر المواضيع إشكاليةً نتيجة آثاره السلبية (نفسياً وجسدياً) على القاصرين والقاصرات، ولكونه من ناحية أخرى يمثل آلية تكيّف (سلبية) للتعامل مع ظروف اللجوء من خلال التخلص من بعض الأعباء المادية، أو إيجاد كفيل محلي يضمن العائلة. في الوقت ذاته، أكد المشاركون على كون هذه الظاهرة من صلب عادات مجتمعاتنا وتقاليدها حتى ما قبل أزمة اللجوء، أي أنها ليست ظاهرة طارئة . وعليه، لم يكن هناك موقف نهائي من موضوع الزواج المبكر. فرغم الاعتراف بمضاره، كان هناك أحياناً نوع من أنواع القبول المتستر تحت عباءة اللجوء.
وعلى الرغم من انتشار هذه الظاهرة حتى في لبنان، فإنها أصبحت مادة للسخرية والتندر من مجتمعات اللاجئين، واتهامهم بالتخلف من بعض أفراد المجتمعات المضيفة.
وفي سياق متصل، كان لعمالة الأطفال نصيبها من القصص والنقاشات. فرغم النظرة السلبية لها فإنها تعتبر أحياناً الحل المتوافر الوحيد لتأمين مدخول للمنزل وخصوصاً في حالة غياب المعيل أو عدم قدرته على الحركة والتنقل. أيضاً وأيضاً لا تعد هذه الظاهرة جديدة، فلطالما اعتبر عمل اليافع في ثقافة مجتمعات محلية عدة وسيلة من وسائل التربية وصقل الشخصية. ورغم أن هذا العمل يسد بعضاً من حاجة الأسرة، ويخفف عنها بعض أعبائها، إلا أنه يعدّ أيضاً من أكثر المواضيع التي تسبب توتراً ومشاكل بين تلك الاسر وأصحاب العمل، نتيجة الاستغلال الذي يتعرض له الأطفال، وظروف العمل القاسية التي يعانون منها.
ومن المواضيع الملفتة للنظر، اختلاف طرق التعبير عن التضامن الاجتماعي والاحتفال بالمناسبات الاجتماعية. فحيث أنه من المفترض عموماً أن تكون هذه العادات جامعة لمختلف الأطياف إلا أن الواقع لم يكن هكذا دائماً.
فمن إحدى عادات السوريين التي جلبوها معهم من بعض مناطقهم - أو التي طوّروها في لبنان بسبب ضيق الحالة المادية - أن يحتفلوا بمناسباتهم وأعراسهم في المنزل. غالباً ما تضم هذه الاحتفالات عدداً كبيراً من الأشخاص، وتستمر إلى وقت متأخر في الليل. وقد سمعنا قصصاً عدة عن مشاكل اندلعت نتيجة هذه الاحتفالات أدى بعض منها إلى إجبار بعض العائلات على ترك منازلهم والانتقال إلى منطقة أخرى. وعلى النقيض، كثير من الخبرات الايجابية المشاركة تمحورت حول مساهمة المناسبات العامة أو الخاصة في التقريب بين أفراد وعوائل تنتمي إلى جنسيات مختلفة وخصوصاً في حال وجود عامل الطبخ في هذه المناسبات، وإمكانية تبادل الوصفات بين النساء.
من ناحية أخرى، تطرقت قصص عدة إلى خدمات كبيرة قدمها لبنانيون إلى سوريين من خلال مساعدتهم على حلحلة بعض المشاكل. مثال على ذلك قصة الدفاع عن عائلة سورية قرر صاحب المنزل الذي تقيم فيه طردها منه رغم الاتفاق معه على أنها ستقوم بترميم المنزل كبدل إيجار. ولم تحلّ هذه القضية إلا بتدخل شيخ وتوسطه لإنهاء الخلاف.
وعلى النقيض، اعتبرت بعض المشاركات في تحليلهن لقصة أخرى، أن تدخل رجل لبناني لفض مشكلة في عائلة سورية بين رجل وزوجته لم يكن ملائماً لأنه شأن داخلي. ورغم إقرارهن بأن التعنيف الاسري شيء خاطئ، إلا أنهن وجدن أن نتيجة التدخل كانت أكثر سلبية كونه أدى إلى طرد الزوج من البناء وبالتالي العائلة ككل.
وبالمحصلة، ينبغي القول إن موضوع العادات والتقاليد معقد ولا يمكن اختصاره بورقة أو ببحث واحد، فهو بحاجة إلى الكثير من الدراسة لرسم صورة أوضح حوله، طالما أنه لا يمكن بمكان إغفال الآثار المختلفة لعاداتنا وتقاليدنا على علاقاتنا كأفراد أو مجموعات قادمين من مجتمعات متنوعة، وخصوصاً في حالات النزوح واللجوء. وبالتالي كل ما سبق ذكره يشكل مساهمة بسيطة ودعوة إلى نقاش أوسع حول موضوع يتكرر ذكره كثيراً، ونادراً ما استوقفنا بطريقة نقدية وتحليلية. هذه الدعوة موجهة خصوصاً إلى الجمعيات والمنظمات الإنسانية والوسائل الإعلامية التي ينبغي عليها أخذ هذا الموضوع على محمل الجد، والنظر إلى تأثير نشاطاتها على علاقات الناس من خلال تعاطيهم مع القيم والعادات والتقاليد السائدة في مجتمعاتنا المحلية.