أما في بعض البلاد العربية، وتحديداً في سوريا والعراق وليبيا، فقد باتت الأقليات تخشى من التعايش مع المسلمين، بعد الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت بحق الإيزيديين في «سنجار»، وتهجير المسيحيين في «الموصل»، وذبح للأقباط على شواطئ المتوسط في ليبيا.
والتحدي الأبرز للمسلمين اليوم يكمن في إعادة ترميم الثقة، وطمأنة الآخر، وتصحيح العلاقة مع العالم. ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحرير الدين من قبضة الجماعات الأصولية، وإعادة السكينة إليه. ولعل الطريق الأقوم لتحقيق هذه الغاية يبدأ بإصلاح الدولة الوطنية، ورفع يد السلطات السياسية عن المؤسسات الدينية المعروفة، والبدء بمراجعة ممنهجة وتصويب شامل لكل المفاهيم التي شوّهها المتطرفون، ومنها علاقة الإسلام بالآخر.
فالإسلام، وكما تؤكد النصوص القرآنية والتجربة النبوية، يكرّم الإنسان كإنسان، بغضّ النظر عن معتقده وجنسه ولغته وحضارته ولونه. فالتنوع والتعدد والتمايز والاختلاف سنّة من سُنَن الله. قال تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» (هود، 118). وقد أُمر المسلمين بأن يتعايشوا مع «الآخر» بسلام وتعاون وتعارف، وأن يكون الحوار والجدال معهم بالحسنى. قال تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». (الممتحنة، 8). والبر هو أعلى درجات الإحسان ومنه بر الوالدين، والقسط هو أعلى درجات العدل. وقال أيضاً: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» (العنكبوت، 46)، وقال: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم» (آل عمران، 63). وقد روى البخاري في صحيحه (1312)، أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً. وأبعد من ذلك، فقد مات رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) ودرعه مرهونة عند يهودي (صحيح مسلم، 1603). وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا ليضنّوا عليه بشيء، ولكنه أراد أن يعلم أمته.
أما في التجربة النبوية مع أهل الكتاب، فنتوقف عند وثيقتين دستوريتين مهمتين أساسيتين: الأولى صحيفة المدينة، حيث اعترفت بالواقع المجتمعي التعددي وبالحقوق المتساوية لكل الفئات، فالجماعات التي ذكرتها الصحيفة بأسمائها، عشرون جماعة، تسع منها مسلمة وإحدى عشرة غير مسلمة. فلم تشطب جماعة ولا حكم على أي منها بالنفي، بمن فيهم المشركون الذين ورد ذكرهم في المادة 20. بل أكثر من ذلك، اعتبرت الصحيفة اليهود أمة من المسلمين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم كما ورد في المادة 24. ولكن بالرغم من ذلك انقلب اليهود العبرانيون (بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير) وليس كل اليهود، على المسلمين في أوقات حرجة جداً، وتعاونوا مع المشركين.
أما الوثيقة الدستورية الثانية، فقد كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عام العهود سنة 10 هجرية لنصارى نجران، حين أتوا ضمن الوفود التي قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هزيمته لقريش وخيبر. ونص أول بند في الوثيقة: «وأن أحمي جانبهم، وأذبّ عنهم، وعن كنائسهم، وبيعهم، وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم، وملّتهم أينما كانوا بما أحفظ به نفسي، وخاصتي، وأهل الإسلام من ملّتي». وذكر في الوثيقة أيضاً أمراً في بالغ الأهمية، وهو أن «لهم إن احتاجوا في مرمة ـ ترميم ـ بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها ـ ترميمها ـ أن يرفدوا على ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك ديْناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله». يعني أن المسيحيين إن أرادوا بناء كنائسهم ينبغي على المسلمين إعانتهم ومساعدتهم، من دون أن يُعدّ ذلك دَينْاً. وحين جاء موعد عيد الفصح وكان نصارى نجران لا يزالون في المدينة، فتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبواب المسجد لهم، وصلوا فيه الصلاة الخاصة بهم. وحين جاء وفد من نصارى الحبشة، أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، قائلاً: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين (الذين هاجروا إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب)، فأحب أن أكرمهم بنفسي.
ومنذ العصر الأموي كان للمسيحيين احتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصلبان ورجال الدين، ولم تكن الاحتفالات تتم بمعزل عن المسلمين. وجرت العادة أيضاً في عهد هارون الرشيد أن تزيّن الشوارع ويخرج المسيحيون في عيد الفصح بموكب كبير. وقد ذكر ول ديورانت أن العصر العباسي الأول يعدّ من العصور الزاهرة، لما لقيه المسيحيون من تسامح في ممارسة شعائرهم الدينية، وفي بناء الكنائس والأديرة وفي مساواتهم بالمسلمين في الوظائف، فكانت طوائف الموظفين الرسميين تضم مئات من المسيحيين، وقد بلغ عدد الذين رُقّوا إلى مناصب الدولة العليا من الكثرة لدرجة أثارت شكوك المسلمين. (ول ديورانت، قصة الحضارة، ج 13، 132). ومن المشاهد اللافتة أيضاً أن التتار اختطفوا جماعة من المواطنين، مسلمين ومسيحيين ويهود. وخلال المفاوضات أراد أمير التتار قطلوشاه أن يطلق فقط سراح الأسرى المسلمين، فرفض الخليفة ذلك، وأصر على إطلاق الجميع، فأطلقهم.
وفي ما يتعلق بالمشركين والملحدين والوثنيين والمجوس والبوذيين والهندوسيين وغيرهم، فإن حقوقهم كحقوق المسلمين أيضاً لا تمييز بينهم، وهم مواطنون كغيرهم، أما الحساب الأُخروي فهو عند الله. أحكامهم كأحكام أهل الكتاب، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، العلاقة بينهم علاقة حوار ومحبة وتعاون. وحين فتح المسلمون فارس، وظهرت هذه الديانات، تشاوروا في ما بينهم، فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: سنّوا فيهم سنّة أهل الكتاب. لكن بالرغم مما تقدم، فإنه ينبغي الاعتراف أيضاً بأن ثمة تجاوزات حصلت من بعض الخلفاء بحق غير المسلمين، لكن هذه التجاوزات في معظم الأحيان لم تكن مقتصرة عليهم، بل وقع مثل هذا الجور على المسلمين أيضاً، وعلى كل من كان مخالفاً للسلطة السياسية، كالإمام أحمد بن حنبل.
وفي الختام، تبقى آية «لا إكراه في الدين» (البقرة، 256)، من أهم المقاصد التي أتى الدين لترسيخها في المجتمعات. ولا يجوز أن يبادر المسلمون إلى أي قتال أو حرب لدوافع دينية كما تبرر التنظيمات المتطرفة، بل السبب الوحيد الذي يعطي مشروعية للقتال هو ما يسمى بالدفاع عن النفس، بأن يبادر الآخر أيّ آخر، حتى لو كان مسلماً، بالاعتداء عليك. قال تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا» (الحج،39). وقال أيضاً: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» (البقرة، 194). ولو أن مشركي قريش لم يتعرضوا للرسول الأكرم بالأذى والشتم وإخراجه من أرضه لما تعرض لهم، مكتفياً بالقول: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكم دينكم ولي دين». ولو أن فارس والروم لم يبادروا إلى قتاله وقتل رسله، لما هاجمهم.