مسؤوليّة الأديان في زمن الحرب: خدمة الإنسان وبناء السلام

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 تموز 15 5 دقائق للقراءة
مسؤوليّة الأديان في زمن الحرب: خدمة الإنسان وبناء السلام
يفضّل العديد من الأشخاص عدم ربط الأديان بالمسائل المتعلّقة بالنزاعات وأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة، إذ يعتبر البعض أنّ الدين أسمى من أن يتمّ التداول به في سياق الصراعات الفكريّة والمصالح الفئويّة، وينحون بسهولة مبالغ بها إلى تبرئته من كل الأعمال الشنيعة التي تُرتكب بإسمه، مُستندين إلى التمييز الفاصل ما بين الدين والذين ينتمون إليه.
على هذا الأساس يُنسب كل غلو وتشويه إلى انحراف الأشخاص في فهمهم للدين وتطبيقهم الخاطئ لتعاليمه، ويحمّلونهم كل اللوم والمسؤوليّة في ذلك، بينما يمكن أن يطاول الاتهام بعدم احترام قدسيّة الأديان من يجرؤ على أن يُسائل المؤسّسات الدينيّة وخطابها تجاه هذه الانحرافات.
في الجهة المقابلة، يعتبر البعض الآخر من الناس أنّه ليس للأديان أيّ دور في مواجهة الأزمات وحلّ الصراعات لعدم قدرتها أو أهليّة قادتها على التعامل مع مسائل هي بطبيعتها سياسيّة وزمنيّة، تختلف مقاربتها جذريّاً عن مقاربة المسائل ذات الطابع الروحي والمقدّس. هؤلاء يعتقدون أنّه من الأفضل حصر الدين في الحيّز الخاص به لدى الأشخاص، بناء على احترام حرية المعتقد والدين، والانخراط في المسائل المرتبطة بالحياة الإنسانيّة على أساس مدني شامل وغير طائفي.
لكن الأحداث التي تشهدها منطقتنا وخصوصاً تلك المرتبطة بالأزمة السوريّة ونتائجها الإنسانيّة والاجتماعيّة، بما فيها من تفكّك للنسيج الاجتماعي داخل البلد، وتشريد للملايين من مدنهم وقراهم وبيوتهم، ولجوء أعداد كبيرة منهم إلى دول الجوار بما فيها بشكل رئيسي لبنان، هذه الأحداث الآنفة الذكر تُظهر مدى الحاجة الملحّة إلى تخطّي الموقفين السابقين، وتبنّي موقف ثالث يعترف على حدّ سواء بخطورة استعمال الدين كأداة في الصراع، ودور المؤسّسات والمرجعيّات الدينيّة في لجم ذلك، والحدّ من تسييس الخطاب الديني، والمحافظة على رسالته الإنسانيّة والقيميّة الشاملة في وجه النزعات الطائفيّة والفئويّة القاتلة من جهة؛ ومن جهة أخرى يتبيّن كل يوم الدور الإيجابي والضروري الذي يمكن أن تضطلع به المؤسّسات الدينيّة في الوصول إلى الناس عبر شبكاتها الدينيّة الواسعة الانتشار بهدف تحديد احتياجاتهم وخدمتهم وحمايتهم من مخاطر التطرّف والعنف.
في الواقع، لا يمكن فصل الدين عن بعده القيمي الإنساني الشامل، وإلا فقد معنى رسالته، وتحوّل إلى مشروع إيديولوجي يسجن أتباعه ضمن منظومات عقديّة خارجة عن سياق التاريخ والحضارة الإنسانيّة. وينطبق ذلك بشكل أساسي على الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة على اختلاف مذاهبهما، إذ تؤكّدان على حتميّة اقتران الإيمان بالله بمحبّة الإنسان وصنع الخير. وتُذكّر الكتب المقدّسة بأنّ أصل البشريّة واحد (آدم وحواء)، ما يجعل من الناس أهلاً في العائلة الإنسانيّة المشتركة وإخوة في ما بينهم. ومن تعاليم الإسلام أنّ الناس جميعاً هم عِيال الله، فيُضفي بذلك على رابط التضامن بعداً مقدّساً مؤسَّساً على ارتباط البشر جميعاً بالله: «الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله». (حديث نبويّ شريف).
ويُشكّل السلام القيمة الاجتماعيّة المركزيّة التي دعت إليها الأديان كجزء من رسالة الإنسان على الأرض وتتميماً للمشيئة الإلهيّة. يقول السيّد المسيح: «طوبى لفاعلي السلام فإنّهم أبناء الله يُدعَون» (متى 5/9). ويذهب الإسلام إلى ربط الإيمان بالمحبّة ونشر السلام، بحسب هذا الحديث النبويّ الشريف: «يا أيّها الناس لن تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابّوا. أوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». ويقترن ذلك بتحقيق العدل مع العدالة الاجتماعيّة. والعدل هو الوجه الاجتماعي لقيمة السلام، إذ بدونه يُصبح مفهوم السّلام قشرة جَوفاء وشعاراً بدون مضمون. وقد نادت الأديان بأخذ العدل كمبدأ أساسيّ من ممارسة الإيمان وتطبيق التعاليم السماويّة. نقرأ في القرآن الكريم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِين لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة 5:8). ونقرأ في كلام النبي أشعيا عن المسيح المُنتظر هذا الوصف الجميل الذي اعتبر المسيحيّون أنّه تحقّق في شخص المسيح: «لا يقضي بحسَبِ ما ترَى عيناهُ، ولا يحكُمُ بحسَبِ سَماعِ أُذُنَيهِ، بل يقضي للفُقراءِ بالعَدلِ ويحكم لبائسي الأرض بالحقّ، ويُميتُ الأشرارَ بنَفخةٍ مِنْ شَفَتيهِ. يكونُ العَدلُ حِزاماً لوَسَطِهِ والحَقُّ مِئزَرا حَولَ خصرِهِ». (أشعيا 11/3-5).
بناء على ذلك، لا بد من أن تصبح جليّة الحاجة إلى الاستفادة من الموارد الدينيّة وقدرة هذا الخطاب على التأثير بالناس من أجل الدفع نحو تضافر الجهود لتحقيق العدالة والسلام، وتأمين كرامة كل إنسان، والتضامن مع الأكثر حاجة، بدون أيّ تمييز طائفي أو إثني أو طبقي. وبهذا تشترك المؤسّسات والجماعات الدينيّة ليس بالاهتمام بمن ينتمي إلى مجموعتها الخاصة وحسب، بل أيضاً بالاهتمام بكل الناس ودفع المؤمنين إلى القيام بذلك. ومن ناحية أخرى، يدفع هذا الموقف المرجعيّات الدينيّة إلى تحمّل المسؤوليّة في تطوير الخطاب الديني بشكل يتلاءم مع الأبعاد القيميّة للرسالات الإلهيّة، ومع الظروف المرتبطة بالأحداث ونتائجها، محافظة على المبدأ القائل بأنّ الدين وُجد لخير الإنسان وليس العكس.
لقد تبنّت مؤسّسة «أديان» هذه المقاربة منذ بداية الأزمة السوريّة، وتعاملت مع نتائجها على هذا الأساس، فتمكّنت من جمع المرجعيّات الدينيّة المختلفة ضمن إطار برنامج بناء السلام عبر المصالحة وتعزيز المناعة الاجتماعيّة في مواجهة العنف وآثاره، فالتقت مرجعيّات دينيّة مسيحيّة وإسلاميّة من سوريا ولبنان حول رؤية مشتركة لمواجهة التطرّف عبر تطوير المناهج التربويّة وخصوصاً مناهج التعليم الديني، كما تطوير الآليات المناسبة لتأهيل الدعاة والوعّاظ بما يتلاءم مع الظروف الراهنة وتحدّياتها. وكان من اللافت مطالبتهم بتنشئة الفاعلين في مجال الإغاثة والعمل الإنساني على ثقافة احترام الاختلاف والتنّوع الديني والتضامن الإنساني، لكي لا يصبح العمل الإنساني مصدراً للتمييز والتشنّجات بين المجموعات المختلفة، بل وسيلة للحفاظ على النسيج الاجتماعي المتنوّع، وفرص إعادة إحياء الحياة المشتركة على أساس احترام الاختلاف والتضامن الشامل مع كل إنسان.

في الواقع، لا يمكن فصل الدين عن بعده القيمي الإنساني الشامل، وإلا فقد معنى رسالته، وتحوّل إلى مشروع إيديولوجي يسجن أتباعه ضمن منظومات عقديّة خارجة عن سياق التاريخ والحضارة الإنسانيّة. وينطبق ذلك بشكل أساسي على الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة على اختلاف مذاهبهما
A+
A-
share
تموز 2015
أنظر أيضا
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
01 كانون الأول 2017
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد