غيّرتك بيروت كثيراً يا صديقي

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 تموز 15 3 دقائق للقراءة
غيّرتك بيروت كثيراً يا صديقي
© عدسة سام
«غيّرتك بيروت كثيراً يا صديقي»... هكذا أنهى طارق آخر اتصال بيننا ليعلن يأسه عن أن يغيّر أحدنا رأي الآخر، هو يراني «قد انجرفت وراء شهواتي»، ويرى نفسه الوحيد الذي تمسّك بالعروة الوثقى.
لم يكن طارق قبل أربع سنين سوى طالب جامعي عادي، وافد من حيّ «جوبر» الدمشقي إلى كليّة الهندسة بمدينتي حمص، بشعر أشقر وعينين زرقاوين «تذيبان قلوب العذارى»، وتعطيانه أفضلية على أقرانه من الشباب، فكان يقضي كلّ وقته يلاحق جميلات الجامعة، وكنّ هنّ يلاحقنه. أما أنا فكنت حينذاك بمثابة ضميره الذي يخفّف جموحه، وكان هو جرعة تساعدني على كسر خجلي الريفي.
حين اندلعت الاحتجاجات مطلع عام 2011، إنهار حاجز الخوف لديّ باكراً، على غرار معظم سكان حمص وريفها، ولم اجد نفسي سوى في صفوف المتظاهرين، ثم بعدها ناشطاً إعلامياً في تنسيقيّة «حيّ بابا عمرو» الذي تحوّل بين ليلة وضحاها من حيّ عادي مهمل، في بلد مهمل، إلى واجهة الإعلام العربي والأجنبي. وفيما كان الحيّ محاصراً، يخوض المنشقون عن الجيش السوري ومن انضمّ إليهم من مدنيين أشرس المعارك على تخومه، ويدكّ بصواريخ لم نكن نسمع بأسمائها من قبل، كان طارق يراقب متعاطفاً.. ولكن من بعيد.
لكن خوفه من المشاركة لم يطُل كثيراً، إذ سرعان ما دفعه النظام الى ذلك دفعاً، فقد اعتُقل بشكل تعسّفي لمصادفة مروره قرب تظاهرة.. أيام قليلة من التعذيب والإهانات كانت كافية لانتقاله الى مقلب المعارضة، فعمل على تشكيل تنسيقيّة تهتمّ بكتابة الشعارات على الجدران، وتنظّم التظاهرات المطالبة بالحريّة، في وقت كان حيّه «جوبر» لا يزال تحت القبضة الحديديّة للنظام.
مسافة مئتي كيلومتر تفصل حيّ «بابا عمرو» الحمصي عن حيّ «جوبر» الدمشقي لم تحل دون تواصلنا المستمر عبر الانترنت الفضائي، للخروج من الشبكة الرسمية الخاضعة لعيون أجهزة الأمن، وأصبحنا في موقع واحد، موقع الناشطين المعارضين المطالبين بسوريا حرّة، لجميع أبنائها، من دون استبداد.
بعد أشهر قليلة، بدأت خطواتنا تفترق، فحيّ «بابا عمرو» سقط بيد الجيش، وانتهى بي الأمر في بيروت، أما حيّ «جوبر» فقد خرج عن سيطرة النظام، وانتهى الأمر بطارق قائداً لمجموعة «الحريّة في جوبر» التي رفعت شعار «تأمين التظاهرات وتحرير سوريا وإقامة دولة العدل والمساواة».
لم ينقطع التواصل بيني وبين طارق، لكنّه صار أصعب، فحيّ «جوبر» وعموم مناطق الغوطة الشرقية المجاورة صارت تحت رحمة الحصار والموت، ومع اشتداد وتيرة القتل تحت مختلف أصناف الأسلحة والابتكارات التي يلقيها الطيران الحربي، ومع الصمت القاتل للمجتمع الدولي والعربي عن المحرقة اليومية، كانت أفكار طارق تسلك اتجاهات متطرفة وكانت نقمته تزداد، ورغبته بالانتقام من هذا المجتمع الدولي «المنافق» تتعاظم.
مع كل فرصة للحديث، كنت أشعر بتغيّر أكبر في فكر طارق وتوجّهاته، فالديمقراطية التي يُفترض أنها وحّدتنا قبل سنوات أصبحت «صنم العجوة الذي يأكله الغرب إن وصل المسلمون إلى السلطة كما في فلسطين ومصر ومن قبلها الجزائر»، وكان ذلك يعزّز في نفسه اقتناعاً بأن لا حلّ إلاّ بالإسلام، والكفر بالغرب ومظاهره الخادعة.
في اواخر العام 2013، قصف الجيش السوري مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائيّة، راح ضحيّة هذه المجزرة 1300 شخص، زمجر الغرب وهدّد وتوعّد، لكن الأيام مضت ولم يحرّك أحد ساكناً.. نجا طارق من هذه المجزرة بجسده، لكن روح الإنسان المسالم الباحث عن الحرية فيه ماتت.. كفر بكلّ شيء.
قبل أشهر، اعتقل احد فصائل المعارضة في ريف دمشق طارق بتهمة الانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية.. بحسب ما أبلغني أصدقاء مشتركون.. فبعضهم قال إنه «بايع» التنظيم، وقال آخرون إنه تقرّب منه ولم يفلحوا في استقطابه.
طارق الذي أعرفه ليس من «الدواعش»، بل هو طالب جامعي عادي وافد من حيّ «جوبر» الدمشقي إلى كليّة الهندسة في مدينتي حمص، بشعر أشقر وعينين زرقاوين «تذيبان قلوب العذارى»، يقضي كلّ وقته يلاحق جميلات الجامعة، وهنّ يلاحقنه.. لكنه مات على ما يبدو ميتات عدّة كان آخرها في الهجوم الكيميائي، ولم يبقَ منه سوى شبح بإسم طارق لا يريد شيئاً من هذه الحياة سوى انتقام وحشيّ «يشفي الصدور».
A+
A-
share
تموز 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد