بنت الشهبندر: البحث عن زمن جميل

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 تشرين الأول 15 5 دقائق للقراءة
بنت الشهبندر: البحث عن زمن جميل
قد يبدو الحديث عن زمن جميل في الوقت الراهن ترفاً! بشاعة الصورة في الخبر اليومي، الوجوه المختنقة بأحوالها الراهنة، القلق والخوف من المستقبل، ثم الهروب وأفكار السفر، كل ذلك وغيره الكثير ينافس فنجان القهوة الصباحي نكهته، وهو يبقى العادة الوحيدة الصامدة في كل الأزمنة.
عن أي زمن جميل سنتحدث؟ كل فترة زمنية تحفل بفظائعها الخاصة، سجّل التاريخ بعضها، وأسقط الكثير منها، ومع ذلك ثمة من يحنّ إلى زمن ما يختار منه فصلاً بعينه، توقيتاً محدداً يحفل بما لم يحفل به توقيت آخر، والغاية دوماً: استحضار الجميل من أمور غائبة.
حسنٌ؛ دعونا من زمننا الحالي، ولنبحث عن زمن آخر، أقل فظاعة ما أمكننا ذلك. لنفتش في أحوال الناس لا ظروفهم السياسية والاجتماعية، فبلا شك كان لديهم عادات كثيرة جميلة، قد نتمكن باستعادتها من فتح نافذة جميلة نطل منها على فظاعة زمننا.
- الزمان: الآن.
- المكان: بيروت، حيث أقيم أنا الكاتب السوري منذ ثلاث سنوات.
- نحن في العام 2015. سأخرج كتاباً من مكتبتي جلبته معي من دمشق؛ إنه كتاب «بيروت» لسمير قصير. سأقرأ فيه، وكلما أوغلت في القراءة أكثر تستحضرني قصة كتبتها في دمشق عن شقيقين يتعلّق مصيرهما بفتاة واحدة شاءت الظروف أن تكون بنت الشهبندر، كبير التجار.
قصة من زمن جميل. هل يمكن توطينها في بيروت في ذلك الزمن؟! نعم يقول لي سمير قصير في كتابه، وجود السوريين في لبنان لم يكن طارئاً، مثلما لم يكن طارئاً وجود اللبنانيين في سوريا أو في جميع بلاد الشام. كلما أوغلت في قراءة الكتاب الذي أعرفه جيداً، تعزّزت الفكرة لديّ أكثر...
ذاك زمن جميل سأختار منه عاماً معيّناً. بيروت عام 1890 أي قبل مئة عام من نهاية الحرب الأهلية. عائلة دمشقيّة تقطن حياً بيروتياً؛ الشقيقان دمشقيان يرتبط مصيرهما بابنة شهبندر التاجر اللبناني صاحب النفوذ... هنا في تلك الفترة لم يكن أحد بحاجة إلى جواز للسفر أو حجّة للتنقل أو حتى وثيقة للبقاء في أي مدينة يشاء؛ ما دام يثبت حسن السيرة والسمعة الجيدة، وما دام يقوم بواجبه ضمن صيغ اجتماعية متعارف عليها لم يكن للتميّيز المناطقي أو الطائفي أي مكان يذكر فيها، وطالما يحفظ كل جار حق جاره ويصونه ويرعاه، ويبقى لكلٍ دينه ودنياه.
تركيبة قد تفلح في تغيير الصورة الشائنة اليوم، لا لن أرفع السقف كثيراً، في أحسن الأحوال سوف نتحدث عما كانت عليه العلاقات الطبيعية بين السوريين واللبنانيين سابقاً، ولترخي بظلالها على حال العلاقة الآن في زمن النزوح السوري المفجع.
توافقنا جميعاً كفريق عمل من منتج ومخرج وممثلين لبنانيين وسوريين على أنها نافذة جميلة، وكانت البداية في موقع التصوير. عرض العمل في شهر رمضان 2015 على شاشات تلفزيونات عربية ولبنانية ولا يزال العرض مستمراً، ويحكي قصة عشق يكون محورها الشقيقان راغب وزيد مع ناريمان بنت الشهبندر.
تبدأ القصة عندما ينشب خلاف بين الوالد أبو راغب الصالحاني وابنه راغب فيقوم بطرده من الحي الذي نالوا فيه حظوة كبيرة، ويحرمه من وراثة اسمه من بعده. ولكي يعزز موقع أبنائه في بيروت يقصد أبو راغب الشهبندر أبو حسن ويطلب يد ابنته الكبرى ناريمان لابنه الأصغر زيد. كان راغب متيماً بناريمان، بينما هي تعشق شقيقه الأصغر زيد الذي كانت له أفكار أخرى بعيداً عن إرث والده والزواج. يختفي زيد بعد زواجه في ظروف غامضة، فيضطر الوالد إلى استدعاء راغب للبحث عنه، فيجد الأخير نفسه في رحلة عذاب مريرة: أن يجد شقيقه ويعيده الى حبيبته ويحرم منها إلى الأبد... وقد حظي العمل بمتابعة واسعة وطرح أسئلة عديدة، لعل أكثرها إلحاحاً كان: هل حقاً كان بمقدور عائلة دمشقية أن تعيش في بيروت وأن يكون لها حظوة وتمارس دوراً في الحياة الاجتماعية العامة كما فعلت عائلة أبو راغب الصالحاني؟.
نقاش هادئ يدور في أروقة التصوير، يتعلّق في أغلبه بالجانب الفني والأدوار التي يترتب على الممثلين القيام بها. لم يناقش الفكرة أحد ولم يستغربها. عاشوا جميعاً ذلك الزمن، ولم يكن غريباً أن تسمع في موقع التصوير عبارة من قبيل: «يا عمي وحياة الله هيك كانت الدنيا وهيك كانوا يعيشو العالم. سقى الله ع هديك الأيام» عشنا ذلك الزمن الجميل في الحاضر!
إنتهى التصوير، عرض العمل على الشاشات، راق للبعض وتابعوه، لم يرق لآخرين فتجاهلوه، والنتيجة كانت: «حلو، بس معقول كانت هيك؟!».
عن أي لا معقول يتساءلون: أن ينال دمشقي حظوة في بيروت؟ أن يقيم على أرضها بكل احترام ويعمل أيضاً؟
يغمز أحدهم مُلمّحاً إلى فترة التسعينات من القرن الماضي والوجود السوري في لبنان، ويلمّح بمكر إلى أن الدور البارز لراغب بطل العمل (لعب الدور الممثل قصي الخولي) إنما هو استدعاء أو تأكيد لزمن قريب! وكأن الذاكرة السياسية بين البلدين ممسوحة وتبدأ من عام 1982 وما يليه فقط! بينما في القصة كان راغب وجيهاً من وجهاء الحي، أما السلطة الفعلية فهي للشهبندر اللبناني (لعب الدور الممثل فادي إبراهيم). فالزمن الجميل الذي عدنا إليه يحفل بعلاقة سليمة صحيّة متكافئة لا تنتقص من استقلالية تلك البلدان أو الولايات كما كانت تسمى في زمن السلطنة العثمانية، وتؤسس بكل وضوح لبلدين جارين مستقلين.
«كان زمناً صعباً من حيث الأوضاع الاقتصادية والسياسية والرغبة في التحرّر من «الحكم العصملي»، لكنه، ومع ذلك، كان زمناً جميلاً «كما يقول لي جد سبعيني شاهد المسلسل وراق له. فهو سرد ما رواه له والده عن ذلك الزمن. وفي معرض الحديث والسؤال قال لي: «أنا بيروتي أباً عن جد بس أصل العيلة من الشام!».
أسهب الجد في ذكر العائلات الشامية التي سكنت بيروت وبالعكس، وحين نقلت له استغراب البعض ممن تابع المسلسل قال: «معليشي عم، إللي بيسأل بيعرف. المهم إنك حكيت قصة حلوة».
لم أكن يوماً من أنصار العودة إلى الماضي أو الحنين إلى زمن قديم. أما العودة في حالتنا هذه فقد كانت بحثاً عن الجميل في زمن الفظاعات.
فتحت أنا والجد النافذة المرهفة بجمالها لنطل منها على الشارع الحزين، وأكمل هو حديثه بشغف عن ذلك الزمن الجميل.

تركيبة قد تفلح في تغيير الصورة الشائنة اليوم، لا لن أرفع السقف كثيراً، في أحسن الأحوال سوف نتحدث عما كانت عليه العلاقات الطبيعية بين السوريين واللبنانيين سابقاً، ولترخي بظلالها على حال العلاقة الآن في زمن النزوح السوري المفجع
A+
A-
share
تشرين الأول 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد