كانت الرائحة المُقززة تفوح من مياه الصرف الصحي المكشوفة والتي تجري فوق الأرض، وذكرتني الخيام المؤقتة المكتظة بالسكان بكلمات الروائي الأرجنتيني آريل دورفمان الذي أمضى كل حياته في المنفى: «أعتقد أن وجودك في المنفى نقمة، وعليك أن تحولها إلى نعمة. لقد ألقيتَ في المنفى لكي تموت، في الواقع لإسكاتك حتى لا يعود صوتك إلى وطنك. ولذلك كرّست حياتي كلها لقول: «لن يسكتني أحد».
يكشف المشهد داخل المخيم عن مأساة كل أسرة فيه والندوب التي خلفتها الحرب في سوريا في كل فرد من العائلة: فقدان الأسرة والصدمة والمنفى، وهي تجارب من شأنها أن تترك في كل من يخوضها يأساً مفرطاً. ومع ذلك، فإن الأطفال الذين ولدوا ونشأوا في كترمايا تجنبوا هذه المشاعر لأنهم لم يختبروا الحرب. وباستثناء الأهالي، يتشابه الأطفال في تحديهم من أجل الحياة ومستقبل أفضل مع صورة المخيمات عند رؤيتها عن بعد حيث تنمو الأعشاب والزهور البرية على المنحدرات المحيطة بالمخيم، لتعتلي المشهد وتقف شامخة كرمز للقدرة على التكيف مع قسوة الحياة.
فن الكولاج وثقافة إعادة التدوير
هنا جاءت عافية رزق، وهي فنانة سورية تبلغ من العمر 38 عاماً وتسكن في مدينة السويداء في سوريا، إلى المخيم لتعزيز قدرات الأطفال وحثهم على رؤية فكرتها المتأصلة في أعمالها الفنية. تؤمن عافية بوجود «الباب» الموجود خلف كل منزل مهدّم وترى «شعاع النور»، الذي يخترق الظلام مهما كان ضئيلاً.تظهر تلك الأفكار بجلاء في عشرات أعمال الكولاج التي عرضتها في معرضها الخاص في العاصمة بيروت.
وبالعمل مع أطفال تتراوح أعمارهم بين 4 و8 سنوات، تشجع عافية الأطفال على «كسر حاجز الصمت» والتعبير عن أنفسهم، باستخدام ما قد يبدو قبيحاً أو مهملاً داخل المخيم.
داخل أحد الفصول الدراسية التي تبلغ مساحتها أربعة أمتار مربعة ذات الجدران الفضية العاكِسة لضوء الشمس، طلبت عافية من حوالي 17 طفلاً تصوير وجوههم الجميلة أو وجوهم التي تمثلهم. بعد الانتهاء من رسم تخطيطي، تم تكليفهم بالتجول حول المخيم لجمع أغطية الزجاجات البلاستيكية وقطع الكرتون والقماش أو أي نوع آخر من القمامة التي يمكن استخدامها لإعادة التدوير. وعند العودة إلى الفصل الدراسي، يبدأ الأطفال في بناء العناصر في صورهم بعد إضافة ألوانهم المفضلة لتتناسب مع أعمالهم.
بالمثل يستهدف هذا النشاط إعادة توجيه المشاعر السلبية مثل الكراهية أو الانتقام، وهي مشاعر عادة ما تولّدها مثل هذه الظروف اللاإنسانية، إلى عالم بديل يخلقه الأطفال حيث يمكن لقوة الخيال أن تحدث تغييراً فعلياً. وتقول عافية: «بدلاً من التذمر من الوضع، يبدأ التغيير الحقيقي عندما نعبّر عن اهتمامنا بالمكان». وتضيف «إنه من الضروري للأطفال في هذا السن التعبير عن مشاعرهم وذكرياتهم وحتى عن معاناتهم المستمرة من خلال أعمال فنية، وهذا هو أحد السبل للتعبير عن الذات الذي هم بحاجة إليه».
عافية، التي جاءت إلى بيروت لعرض أعمال الكولاج الفنية الخاصة بها، لم تنسَ أبداً تفانيها وحبها للأطفال. فمنذ عام 2005، استخدمت عافية الفن لمساعدة الأطفال على التعافي وتحفيزهم داخل مخيمات النزوح المنتشرة حول قريتها السورية التي لم تتأثر بالحرب نسبياً. في أحد معارضها هنا، قابلت مجموعة تعمل عملاً إنسانياً مقرها نيويورك بالصدفة، والتي عرضت عليها الانضمام كمتطوعة. قرّرت عافية مرافقة المجموعة من دون أي تردد. وحتى بعد مغادرتهم، بقيت عافية في محاولة لإحداث تغيير ما مع الأطفال من خلال تحويل «نقمة» الحرمان والتهميش إلى «نعمة» بمعنى زرع بذور الجمال والإيجابية بينهم. وبعبارة أخرى، كانت تغير وجهة نظرهم عن الحياة وتعزّز قدراتهم على «تحويل القبح المحيط بهم إلى جمال».
«كل طفل فنان»، تقول عافية «إن دوري هو مجرد استخدام نظرتهم للمكان من حولهم وإظهار الجمال داخل ما يُعتبر قبيحاً».
معدل المواليد المتزايد دليل على المرونة
وتنعكس القدرة على التكيف أيضاً في معدل المواليد المتزايد بشكل ملحوظ في المخيم وسط كل الفقر والحرمان. تتكوّن أسرة كل أم التقيت بها في المخيم من 4 إلى 8 أطفال، نصفهم تقريباً ولد داخل المخيم الذي تبلغ مساحته 4 آلاف متر مربع، والذي يمتلكه مانحه علي طقش، وهو من الشوف.
وكان تدفق اللاجئين السوريين إلى المخيم قد بدأ بمأوى يستوعب عائلة واحدة هربت من الحرب عام 2012. لم يستغرق الأمر سبعة أشهر فقط حتى تم بناء 75 مأوى آخر لاستيعاب 35 عائلة سورية. واليوم، تضاعف هذا العدد بعد زيادة معدل المواليد داخل المخيم وكأنهم يلوحون برسالة مفادها أنه بغض النظر عن الوضع السيىء، يبقى حق التكاثر والإنجاب من النعم التي لا يمكن انكارها، وذلك لأن الأطفال يمثلون المستقبل، وهم قادرون على إعادة صياغة أو تشكيل هذا المستقبل في الوقت الذي أخفقت الأجيال الأكبر سناً في عمل أي تغيير إيجابي.
كان لقاء واحد مع طفل في المخيم كافياً لإعطاء صورة عما سيبدو عليه المستقبل. لم تستخدم براءة عنتر البالغة من العمر 13 عاماً جهاز iPad أو تلعب كباقي الأطفال خارج المخيم ألعاب الفيديو يومًا، كما أنها لا تملك هاتفاً خليوياً. وكانت المرة الوحيدة التي تمكنت فيها من اختبار أو مشاهدة الحياة في المدينة هي عندما ذهبت في رحلة مدرسية إلى بيروت، كجزء من أمسية «السلام» حيث عُزفت الموسيقى في الجامعة اللبنانية الأميركية. فتقول: «كنت خائفة ولم أتمكن من الابتعاد عن والديّ بسبب الخوف».
لخوفها ما يبرره، فالعصافير تخاف من أبواق السيارات ومن الحركة السريعة حتى ولو كانت ظلاً على حائط. لكن الناس في العالم المتحضر اعتادوا على الحياة السريعة إلى أن اختفت المخاوف واستُبدلت بلامبالاة وأنانية وجشع. حتى نسي الناس حقيقتهم.
في المخيم، إن تصورات براءة عن العالم الخارجي مبنية على تفاعلها مع طفل أميركي مقيم في نيويورك، في مدرسة هادسون، اسمة لوغان، يكتب الطفلان رسائل بخط اليد وتقوم مجموعة من المتبرعين بنقلها وقد حدّثها لوغان في إحدى رسائله عن حياته في نيويورك. والآن تحلم براءة بالسفر إلى أوروبا أو أميركا لتحصل على تعليم أفضل.
وعند سؤالها «كيف ترى نفسها في المستقبل»، وبنبرة مفعمة بالثقة والبلاغة والشجن، قالت بعدما ترقرقت الدموع في عينيها إنها تريد أن تكون محامية. «أريد تحقيق العدالة في العالم، بدءاً بأفراد عائلتي».