يتحدد تقدّم المجتمعات بسيادة العدالة المدنية، التي تحفظ حقوق كافة أفرادها على كل المستويات. للأسف ما حدث في لبنان في العام 2016 خلال الانتخابات البلدية والنيابية كان فضيحة مدوّية. كثيرة هي الأمثلة لكن بالنسبة إلي يبقى أهمها إقصاء وتهميش مشاركة الأشخاص ذوي الاعاقة في الانتخابات عبر تجاهل حقهم الدستوري، على الرغم من تنفيذ الوعود التي تطلقها وزارة الداخلية عقب كل استحقاق بأن الانتخابات المقبلة ستحفظ حق الجميع في الاقتراع بكرامة. وآخرها كان بعد الانتخابات البلدية في 2016، حيث أكد وزير الداخلية نهاد المشنوق فشل وزارته في تأمين اقتراع الأشخاص ذوي الإعاقة بكرامة، وقدم اعتذاره لعدم الاستعداد لتأمين تسهيل وصولهم بسبب ضيق الوقت. لكن المشهد نفسه تكرر في الانتخابات النيابية الأخيرة مع فارق أن الحكومة ووزارة الداخلية كانت لديهما سنة أو أقل للاستعداد لوجستياً للانتخابات النيابية.
مرّ شهر على الانتخابات النيابية وصمتت وسائل الإعلام وانكفأ الناس عن الكلام عن كل ما رافقها من إخفاقات في التنظيم، وخيبات أمل لدى الناخبين ذوي الإعاقة والتي انتهت بوعود من وزير الداخلية ورئيس الحكومة بأن المرة القادمة ستكون الأمور أفضل. مرّت الفضيحة من دون محاسبة أو مساءلة. فقط الوعود بحلول للاستحقاق المقبل بقيت معلقة في الهواء.
نطرح هنا تساؤلاً، لماذا فشلت الدولة أكثر من مرة في تسهيل اقتراع الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن وغيرهم من الأفراد الذين يواجهون صعوبات في الوصول الى مراكز اقتراعهم؟
تتوزع مسؤولية الفشل أولاً على الحكومة مجتمعة وعلى الوزارات المعنية: وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة التربية والتعليم العالي، ووزارة الداخلية والبلديات.
تتخبّط المؤسسات الحكومية عند كل استحقاق، فيما الحلول سهلة ومستدامة ولا تستدعي كل هذا التخبّط، لتأمين حق بديهي كفله الدستور، حيث تنص الفقرة «ج» من مقدّمة الدستور اللبناني بوضوح على «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل». وهنا يأتي دور وزارة الشؤون الاجتماعية بعد إقرار قانون 220/2000 للمعوقين الذي يتضمّن أحكاماً مفصّلة تُحَقِّق سلامة المعوّق وكرامته ورفاهيته في مجتمعه. وأُنشئت «الهيئة الوطنية لشؤون الأشخاص المعوقين» وهي تشكّل المرجعية التقريرية لإقرار شؤونهم، يترأسها الوزير ويشغل عضويتها خبراء وممثلون مُنتَخبون عن الأشخاص المعوّقين. إلا أنّ تطبيق القانون لا يزال غير مفعّل، ويحتاج الى تعديلات وتوضيحات في بعض فقراته. كما تبيّن من التطبيق على الأرض للتقديمات التي يحصل عليها حاملو بطاقة الإعاقة، أن الأشخاص ذوي الإعاقة يخضعون لبيروقراطية معقدة لدى الدوائر الحكومية التي بغالبيتها لا تتمتع بالمواصفات المطلوبة عالمياً لتحقيق استقلالية الأفراد المعوّقين ومساواتهم أسوة ببقية أفراد المجتمع. رغم أن القانون منح الهيئة الوطنية لشؤون الأشخاص المعوّقين صلاحيات عديدة، إلا أنها للاسف كحال البلد تخضع للتجاذبات وتبقى معظم مقرراتها غير منفّذة. كذلك تفتقد وزارة الشؤون الاجتماعية إلى مركز معلومات متخصص يجيب عن أسئلة حاملي بطاقة الإعاقة التي تمنحها الوزارة وغيرهم من أفراد المجتمع ممن يهتمون بقضية الاعاقة. فمعظم الاشخاص ذوي الاعاقة يعانون عند الاستفادة من الامتيازات المقدّمة لهم، وفي أحيان كثيرة لا يعلمون كيفية الحصول على الخدمات.
بعد أن أقر قانون 220/2000، كان يتوجب على وزارة التعليم الإشراف والمتابعة على تطبيقه لتصبح المدارس كلها سهلة الوصول، فمن حق الأطفال ذوي الاعاقة ارتياد المدارس الحكومية والخاصة لا أن يُعزلوا في مؤسسات عن بقية مكوّنات المجتمع. وبما أن وزارة الداخلية والبلديات هي المشرفة على سير العملية الانتخابية كان يتوجب عليها ما ان انتهت الانتخابات البلدية 2016، وإيفاءً للوعود التي أطلقها الوزير، المبادرة إلى تشكيل فريق من الاختصاصيين يقدم الحلول العملية، والاستعانة بتقنيات متطورة ومبتكرة لاستنباط حلول تحفظ وتصون كرامة الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن وتسهّل عملية الاقتراع لفئة تتعدى الـ 50 الفاً من دون تعريضهم لمخاطر الحمل وتجنيبهم المهانة التي تعرضوا لها في المرّات السابقة.
بعد كل ما تقدم، لماذا أصبحت قضية الإعاقة موسميّة بعد أن كانت هذه القضية تحمل زخماً في التسعينات وبداية الألفية الحالية؟ أصبحت هذه القضية اليوم شبه غائبة عن اهتمامات الدولة، مما انعكس سلباً على حياة الأفراد الذين يقاربون الـ 20 بالمئة من تعداد السكان إذا ما أحصينا الأشخاص المصابين بإعاقات وكبار السن والعائلات التي لديها صغار في العربات. هؤلاء مجتمعون يعانون الصعوبات ذاتها لانعدام البنية التحتية المناسبة التي تسهّل عليهم القيام بأعباء حياتهم اليومية من دون مشقة.
رغم وجود الاثباتات وشهادات الأفراد المعوقين عن الانتهاكات والمخاطر التي تعرضوا لها خلال عملية الاقتراع، فضلاً عن الاعتراضات على غياب الإجراءات اللوجستية التي تتيح لكل الافراد المشاركة بعملية الإقتراع باستقلالية ومن دون حاجة إلى مساعدة أحد، لغاية اليوم، لم يبادر أحد لا الجمعيات التي تعمل في مجال الإعاقة ولا الأفراد ذوو الإعاقة، إلى التقدم بمساءلة للحكومة والوزارات المعنية بانتهاك حقوقهم ولم يلاحقوا تنفيذ الوعود التي يطلقونها.
أعترف وأنا واحدة من المقصّرين بحق قضيتي، بأن هذه القضية لم تعنِ لي الكثير رغم إصابتي بشلل الأطفال منذ عمر السنة. عملتُ لسنتين وأكثر في الجمعية الوطنية لحقوق المعوقين، ولاحقاً في ورشة الموارد العربية لمدة 5 سنوات، وبحكم عملي في مجال تصميم الغرافيك قررت التخلي عن العمل في الجمعيات والسعي وراء حلمي وطموحي بالعمل في الشركات الخاصة لإشباع رغبتي وتحقيق ذاتي، فتنقلت بين شركات عديدة من بيروت إلى الخُبر والدوحة، إلى أن استقريت نهائياً في بيروت، ما أعادني إلى قضيتي هو التقاط صورة لسيارة وزير تقف في المكان المخصص لذوي الاحتياجات الخاصة. ولاحقاً وثقّت الكثير من هذه الانتهاكات واستخدمت مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الوعي وطلب مساعدة الناس وإشراكهم في عملية توثيق المخالفات والتي تمثل معظمها بوقوف سيارات في الأماكن المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة أو المباني التي تفتقد إلى المنحدرات. تفاعل معي مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي من كل المناطق في لبنان، وبدأوا بتزويدي بصور عن الانتهاكات منذ 2007 ولغاية اليوم، وتبين من خلالها أن غالبية من لا يحترمون أو يطبقون القوانين هم إما وزراء، أو نواب أو أطباء أو أمنيون أو سائق ينتظر أحداً ما، كما أني وثّقت بالصور انتهاكات لهيئات دبلوماسية حيث يركنون سياراتهم في الأمكنة المخصصة لذوي الاحتياجات أيضاً، متغاضين عن وجود الإشارات التي تمنع وقوفهم، فيما المفترض بهذه الفئات أن تكون الأكثر وعياً والأكثر احتراماً والأكثر تطبيقاً للقوانين. وعندما خضت الانتخابات البلدية في 2016 مع «بيروت مدينتي»، كان هدفي الأول تسليط الضوء على القضية المنسيّة وكان محور حملتي الانتخابية «حق الوصول للجميع».
كلنا مقصّرون بحق قضيتنا. جمعيات وأفراداً. نحن أصحاب الإعاقات الذين نعمل خارج نطاق الجمعيات تخلينا عن قضيتنا الأساس. نكافح على مستوى شخصي لتأمين محيط سهل يعزز استقلاليتنا الخاصة متجاهلين بقية أترابنا. لم يعد هذا كافياً. كلنا معنيون. يجب أن نتكاتف لنفرض تطبيق القوانين والتوقف عن انتهاك حقوقنا انطلاقاً من مؤسسات الدولة أولاً، فالبطالة تطاول غالبية المعوّقين وهي النسبة الأعلى بين فئات المجتمع في لبنان. غالبية المعوّقين لا يحصلون على تغطية طبية، أما بطاقة الإعاقة فهي غير معترف بها لدى المؤسسات الطبية ولا تغطي الأفراد إلاّ عند المبيت في المستشفيات. نحن نحصل على خدمات من جهة ولكن من جهة ثانية نخضع لبيروقراطية صارمة، فضلاً عن غياب أجوبة عن الكثير من تساؤلاتنا. هي تفاصيل قد تبدو تافهة للبعض ولكن تعني الكثير. تفاصيل صغيرة تحيل حياتنا إلى جحيم من المعاناة.
آن لنا أن نجتمع لنضع خطة شاملة لننقل قضية الإعاقة إلى القرن الحادي والعشرين وفقاً لمعاييرنا الخاصة وشروطنا التي تفرض الحلول التي تناسبنا، فنحن مواطنون من الدرجة الأولى، ننتج وندفع الضرائب ونساهم في الاقتصاد الوطني، لسنا عالة على أحد، وبإمكان الدولة والقطاع الخاص الاستفادة من المهارات التي يتمتع بها الكثير من الاشخاص ذوي الإعاقة.