قصتي مع البرازق

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 02 آب 18 5 دقائق للقراءة
قصتي مع البرازق
© عمل فني لمصممة الغرافيكس منى أبي وردة
في رواية زوربا، مقطع يتحدث فيه عن الفريز، ويقول إنه في طفولته أحب هذه الفاكهة بطريقة جنونية، وظل يأكله حتى أصيب باضطراب في المعدة وتقيأه كله، حاول فعل الشيء ذاته مع النساء ولم ينجح. ذلك كان زوربا، أما أنا ففي صغري فعلت الشيء نفسه تقريباً لكن ليس مع الفريز.
أتذكر أنني كنت كلما سألني أحد، «شو بجبلك معي؟» أقول مباشرة ومن دون تفكير: «برازق». وربما كان يشاركنا هوسنا بها معظم أطفال الحي، فعندما يعود أبي من السوق حاملاً علبة برازق، كانت تلك واحدة من أعظم حالات البهجة في حياتنا. ولحسن حظنا فقد كان من عادة الناس غالباً إهداء الحلويات في الزيارات العائلية، والبرازق على الأخص، ربما لكون ثمنها متواضعاً نسبةً إلى غيرها من الحلويات، ولأنها كانت توضع في علب بلاستيكيّة دائريّة الشكل يمكن لفّها بشريطة حمراء وإهداؤها. وحينها كنا نتقافز حول العلبة مثل الأرانب، ونسحب الأقراص الصغيرة المغطاة بالسمسم واحداً تلو الآخر، وأحياناً ندعو أبناء الجيران إلى الوليمة العظيمة ونهمس لهم «تجو لعنا؟ عنا برازق». مع اختلاف أننا كنا نسميها «برازي»، ولم نكتشف اسمها الحقيقي حتى رأيناها موضوعة على أحد الرفوف في محل الحلويات. وهذا شكّل انعطافة في مسيرة حبنا لها، حيث أصبحت بالنسبة إلينا أكلةً رسمية تحمل حرف (القاف) الثقيل في آخرها، رغم أنه يلفظ مخففاً بالهمزة، وأصبحنا نتسلل أحياناً في الليل، لنسرق قرصين من العلبة المهيبة، ونكمل النوم.
والحقيقة أننا على خلاف زوربا لم نتقيأها أبداً، رغم أننا تناولنا منها كميات هائلة. أفكر أحياناً أننا لو رصفنا أقراص البرازق التي أكلناها لشكلت طريقاً كاملاً من قريتنا في الجبل إلى بيروت. ولا تخلو ذكرى أي عيد أو لقاء عائلي من علبها المتبادلة بين البيوت والمرتَّبة على الطاولات، والصحن الذي تعيد خالتي ملأه كلما دخل ضيف وخرج، وربما من أكثر الرموز المشتركة بين أقاربنا في سوريا وأقاربنا في بيروت، كانت هذه البسكويتات الهشة برائحتها القوية وقطع الفستق الحلبي في عجينتها، حتى أنني ما أكاد أذكر اسمها حتى تتسلل إليَّ رائحتها ومشاهد انتشارها في كل البيوت وفي كل المناسبات.
أما عن رائحة البرازق فيمكن قول الكثير، ولا شك في أنها كانت في تلك السنوات الماضية أقوى مما هي عليه الآن بكثير، فإن دخلت البيت علبة منها، انتشرت رائحتها حتى غرف النوم. ولأن الضيوف غالباً ما كانوا يصلون ليلاً، فكنا في الصباح نصحو على أثر الرائحة لنجد العلبة جالسة على الكومودينة الخشبية الطويلة بين التحف وصحون الخزف.
في الأحياء القديمة والحديثة كانت تتوزع مخابز الحلويات وتفوح منها روائح العجين المخبوز بالسمن أو الزبد مع المطيّبات. لكن رائحة البرازق كان لها طابعها وأثرها الخاص دائماً، ما إن تقف عند زاوية الشارع حتى تهبّ عليك روائح خبزها من كل مكان. وفي كل فرن تجد ثلاثة شبان على الأقل يتناوبون على خلط السميد بالطحين والزبدة والفانيليا والخميرة، ثم يرقّون العجين على شكل أقراص صغيرة، ويغمسونها بالسمسم المحمص مع القطر ثم مع الفستق الحلبي.
يعرف أي صانع للحلويات أن العجينة كلما كانت أرق كلما كانت أكثر هشاشة ولذة. وهناك خفة خاصة يحتاجها صنع البرازق للتعامل مع الأقراص الصغيرة وجعل وجهها مغطى بالكامل بالسمسم. أتذكر أن أمي مثل كثير من النساء جربت صنعها في البيت، ولكنها فشلت في مقاربة برازق السوق، وقوبلت محاولتها بوجوه ممتعضة من أولادها: «ماما لا عاد تعمليها منجيبا من السوق». حتى جدتي ذات الأصول الريفية اللبنانية التي كانت تصر على خبز كل شيء بيدها، لم تمانع أن يشتري لها خالي البرازق، وكانت تقبل أن ترتبها بكل فخر إلى جانب الأقراص المعجونة بالحليب والمعمول في العيد.
جملة «جيبولنا معكن برازق»، كانت لوقت طويل الجملة الختامية لكل محادثاتنا الهاتفية مع أقاربنا في لبنان، وحتى الآن ما زلت أسمع في لبنان جملة ساخرة لمن يكثر زياراته إلى سوريا، «أكيد عم ينزل يجيب برازق»، لكونها الهدية الأثمن غير المتوفرة في لبنان. كانت صناعة لا يتميز بها أحد أكثر من أهل دمشق، حتى في المحافظات السورية الأخرى، لم تكن البرازق مثل برازق الشام، وربما لهذا السبب كانوا يصنعون الأقراص الشامية أكبر بقليل حتى لا تنتهي بسرعة. ومع مرور الزمن عبرت البرازق الحدود بين البلدين بعد الحرب، وحمل سر صنعتها كثيرٌ ممن تنقلوا بين سوريا ولبنان تلك الفترة. فانتشرت في بيروت ومنها إلى طرابلس والريف الساحلية، ثم أصبحت موجودة بكثرة ولا يخلو منها أي محل أو مخبز لبيع الحلويات.
ليس مستغرباً في بلادنا أن يحمل صنف من الحلويات كل هذه العلاقة الحميمة مع الناس. ربما نحن شعب عاطفي كثير التعلق بالذكريات، وربما لكثرة الحروب والأزمات، يهرب البعض إلى تذكر أيام الرخاء والاجتماعات العائلية والأعياد، تلك الأيام الحنونة التي كنا فيها صغاراً نركض بين أواني الفخار والقش في العليات العابقة بروائح القمح والبهارات، ونقف محتارين أمام أصناف الحلويات العديدة، ليس مستغرباً أن يمسك أحدنا قرص البرازق اليوم ويسرد ساعة من الذكريات والانطباعات ويهرب في رحلة سريعة إلى الذاكرة والحنين.
اليوم تنتشر محلات الحلويات في كل مكان، والصنعة يتناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، وصناعة البرازق ليست سراً على أحد. فالوصفة منتشرة على صفحات الانترنت، من البرازق الشامية والحلبية إلى البرازق المقدسية التي تبدو مثل رغيف الخبز، وتدخل أيضاً ضمن تراث أهل القدس وذاكرتهم، لكن السحر يكمن في خفة اليد التي تصنعها ورقَّتها في التعامل مع العجينة، وفي عدد دقائق خبزها ودرجة احمرارها ولون السمسم الأشقر، إضافة إلى درجة الحلاوة ودرجة الهشاشة.
بين سوريا ولبنان الكثير من التفاصيل الحميمية المشتركة، البرازق في رأس قائمتها، تلك العلب البلاستيكية التي كانت تقطع الحدود ولا تعود، وتحضر بقوة في كل مناسبة واجتماع وتحلية ومباركة. في مخيلتي الطاولة الخشبية ذات البلور الرقيق التي كانت جدتي ترصف تحته العملات المختلفة بطريقة تزيينية، وفوقها صحون الحلويات، صحن البرازق كان دوماً، الأسرع في الاختفاء.
A+
A-
share
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد