صارت حواجز الجيش اللبناني في البلدة شبيهة بأي حواجز أخرى خارجها. تخفف العناصر من الدروع والخوذ الثقيلة، فيما غاب القلق والحذر في التعامل مع القادمين والسيارات العابرة. لم تعد تحتاج إلى لزيارة عرسال أو صديق لك فيها. يكفي أن تقود سيارتك وتقصدها من دون أي شعور بالخوف كما كان الحال خلال السنوات السابقة لمن يتمكن من دخول البلدة.
مواقع العسكريين انفرجت أيضاً بعدما كانت تشبه الثكنات في تمركزها حول عرسال وحدودها مع بقية بلدات البقاع الشمالي. خمس سنوات والدولة تزنر عرسال بنحو خمسة آلاف عسكري لحمايتها وجاراتها من اللبوة إلى الهرمل مروراً بالفاكهة ورأس بعلبك والقاع.
أصبح طبيعياً مشهد العسكر يعبرون فرادى في زواريب عرسال وأزقتها. وها هم العراسلة فرحون بمراكز ودوريات الجيش في هضاب جرودهم، وعلى قمم سلسلة جبال لبنان الشرقية على الحدود مع القلمون السورية. مناطق كانت قبلاً محتلة من قبل مسلحي داعش والنصرة، وكانت ممنوعة على المزارعين «العراسلة» قبل معركة «فجر الجرود» التي أعادت الأرض إلى أهلها. كل ذلك يقول بعودة عرسال إلى الدولة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. ولكن.
غصة كبيرة تعكّر صفاء هذا الإنفراج الأمني الذي أراح السوريين كما أهل عرسال: هي الألغام التي زرعها داعش والنصرة في جزء كبير من أراضي عرسال قبل تحرير الجرود. ألغام أوقعت نحو 13 ضحية من عناصر الجيش اللبناني ومزارعي عرسال وسوريين حتى الأمس القريب، ومعهم نحو سبعة جرحى، بينهم من أصيبوا بإعاقات نتيجة بتر عضو من أعضائهم، أو تعطله. يوثق الجيش سقوط خمسة ضحايا فقط.
تبلغ المساحة «الملوثة» بالألغام 120 كيلومتراً مربعاً، وتشكل نحو 30% من مساحة جرد عرسال وأراضي مزارعيها، وفق معطيات الجيش اللبناني الذي أكدت مصادره أنه سيبدأ المسح في تموز المقبل، وبعد ثلاثة أشهر يباشر عمليات التنظيف.
عرسال نفسها تغيرت بعد نهاية آب 2017. فمع قوافل المسلحين الذين تم إجلاؤهم عن جرودها، غادر البلدة نحو 10 آلاف لاجئ سوري. سبق هؤلاء آلاف أخرى وإن على دفعات، ثم لحقت بهم عائلات بشكل فردي أيضاً. ليتقلص عديد السوريين اللاجئين إلى عرسال من نحو 120 ألفاً إلى نحو ستين ألفاً بينهم نحو أربعين ألفاً مسجلين لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
شوارع عرسال أيضاً تغيرت. إختفت السيارات ذات الزجاج الأسود «المفيَّمة»، ومعها آليات «البيك آب» التي كانت تسير من دون لوحات. غادر المسلحون الشوارع إلى غير رجعة. خفت حركة الدراجات النارية التي كانت تزدحم في الأزقة وعلى الطرقات، ومعها الإحتكاكات بين المارة في الطرقات وبين المنازل. وحدها المحلات الكثيفة التي فتحت الباب على الباب ما زالت مشرعة الأبواب. معظم هذه المحلات فتحها سوريون (نحو 500 محل) فيما يعمل سوريون آخرون في محلات العراسلة (نحو 150 محلاً).
المعابر بين عرسال البلدة والجرد تشي بالتغيّر الإيجابي أيضاً. فمنذ معركة آب 2014 توقفت الحركة بين عرسال وجردها. مُنع العراسلة من الوصول إلى أراضيهم حتى في الجرد المنخفض (الواطي) المعروف بالبرية، وهو جرد مروي بغالبيته، مما أدى إلى يباس معظم كعوب الأشجار المثمرة، ومعها مواسم الخضار الصيفية والشتوية، وفق ما يقول أبو ربيع البريدي، المزارع الوحيد العرسالي الذي لم يغادر أرضه على مدار سنوات الأزمة.
الجرد نفسه لم يعد يحتاج إلى إذن أمني لعبور حواجز الجيش التي ما زالت رابضة عند مداخله نحو عرسال البلدة. يكفي أن تقول إنك ذاهب لزيارة فلان في «البرية»، كما يسمي العراسلة جردهم، لكي يطلب الجندي هويتك ويسجل سيارتك على صحيفة خاصة، ويتركك تتابع طريقك.
يعبّر أبو ربيع عن ارتياح المزارعين لتخفيف الإجراءات الأمنية، وانتشار الجيش في كامل جرود عرسال ولغاية الحدود مع سوريا «عاد الجرد للدولة ولأهل عرسال» يقول.
يصف رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري الوضع بـ«الجيد جداً»، مؤكداً تلمّس «تحسن أمني مباشر، لمجرد تحرير الجرود ومعها عرسال البلدة. إنتهت مظاهر السلاح في الشوارع والسيارات غير الشرعية، وكل مظاهر الإخلال بالأمن أو التفلت».
ويشير الحجيري إلى أن «هذا ينسجم مع إرادة أهالي عرسال الذين طالما طالبوا بوجود الدولة والجيش وكل القوى الأمنية بأجهزتها كاملة في البلدة، وهذا ما تحقق بفضل تعاون الأهالي وإصرارهم»، مؤكداً أن الدولة تبني مخفراً صار شبه جاهز، مكان المخفر الذي احتله المسلحون يوم بداية معركة آب.
المشكلة الأساسية التي تقلق أهالي عرسال اليوم وفق الحجيري: «هي الألغام والأرواح التي تحصدها»، مطالباً الجهات المعنية في الدولة والجيش بتسريع عملية المسح والتنظيف «لتعود الأرزاق إلى أهلها، ولوقف الموت».
فرحة أهالي عرسال لم تكتمل أيضاً بسبب الأعباء الكبيرة المتراكمة عليهم في السنوات الأخيرة، وفق ما يقول خالد البريدي: «خسرنا مواسمنا في الجرود على مدى خمس سنوات، توقفت مقالع ومناشر الحجر، ومعها العاملون في قطاع النقل، وانعدمت فرص العمل، وهذا أمر لم يعتده العرسالي في حياته».
فعلاً، كانت عرسال المحرك الاقتصادي للبقاع الشمالي. حوّل أهلها جردها إلى واحة مع غرز نحو 4 ملايين و750 ألف شجرة كرز ومشمش وتفاح. وكان إنتاج الجرد المنخفض من الخضار ومواسمها سنداً رئيسياً في القطاع الزراعي.
يقول البريدي إن مقالع الحجر ومناشرها، ومعها نحو 200 آلية لنقل الحجر العرسالي إلى كل لبنان، شكلت مصدر رزق أساسياً لا يقل عن الزراعة أهمية ومدخولاً، لا بل يكاد يتفوق عليها. كما كانت التجارة على الحدود مع سوريا لناحية ريف القصير وحمص وبادية الشام في السلسلة الشرقية، تشغّل عدداً لا بأس به من الأهالي.
تعويضات الدولة على خسارة العراسلة مداخيلهم، التي قدروها بنحو خمسين مليار ليرة، اقتصرت على عشرة مليارات تم توزيعها العام الفائت. وهي تعويضات لا تغني عن جوع. يقول أبو أحمد الفليطي، أحد مزارعي الجرد إنه دفع نحو ثلاثين ألف دولار لإنعاش مزرعته بعدما عاد إليها ليجد منزله الزراعي مدمراً، وآلياته مسروقة. حتى الأشجاره المثمرة التي رعاها لعشر سنوات ولم يأكل منها إلا موسمين اثنين، يبست بسبب عدم ريّها طوال فترة احتلال الجرود.
يثير رئيس البلدية أيضاً عدم قدرة المزارعين على الوصول إلى مساحات كبيرة من أراضيهم «عادت إلينا أراضينا، ولكن ليس كل الأراضي بسبب الألغام». يؤكد أن هناك 150 ألف شجرة مثمرة على أقل تقدير قد يبست في الجرد ، كما «لدينا 120 بيتاً زراعياً مدمراً بالكامل». الشجر الذي لم يمت قطعه المسلحون شتاء للتدفئة.
صارت المعركة في عرسال اليوم «تنموية» وفق الحجيري: «هناك حاجة لتحسين البنى التحتية التي تستوعب أهل عرسال ونحو خمسين إلى ستين ألف نازح». يقول رئيس البلدية إن الطرقات غير صالحة للسير، وشبكة الكهرباء تحتاج إلى صيانة وتمتين، ومعها شبكة المياه والأهم المبادرة إلى حل مشكلة الصرف الصحي المتفاقمة في المخيمات، والتي تؤثر أيضاً على المياه الجوفية مع وجود 120 مخيماً في البلدة.
يثير الحجيري أيضاً وضع المدارس التي تشتغل منذ العام 2011 بدوامين لاستيعاب تلامذة عرسال والنازحين «تم استهلاك التجهيزات والمقاعد والمباني وغيرها بسبب كثافة العدد والتشغيل قبل الظهر وبعده».
الخروج من الحصار والأزمة لا يكون بالكلام والتمنيات، كما يقول البريدي، مشيراً إلى ضرورة أن تمد الدولة يدها إلى عرسال لتكون عودتها حقيقية ومكتملة: «غالبية المقالع والمناشر تعرضت للخراب وسرقة آلياتها، ولا يمكن لأهل عرسال استئناف أعمالهم من دون تعويضات».
يشير الحجيري إلى وجود تحد كبير أمام عودة الحجر العرسالي إلى الأسواق بالقوة نفسها التي كان عليها: «هناك منافسة كبيرة من الحجر المصري والسوري، ويحتاج العراسلة إلى وقت قبل استرداد أسواقهم».
الإرتياح الأمني الذي شهدته عرسال انعكس أيضاً على السوريين فيها. يقول أبو أحمد القاري إن وجود المسلحين كان مؤذياً بالنسبة إلينا كما أهل عرسال وربما أكثر، مذكراً بتصفيات عديدة نفذها عناصر من داعش والنصرة بنازحين سوريين ولأسباب واهية. ولذا «ارتحنا برحيلهم كون عرسال ارتاحت أيضاً، ولم نعد نشعر أننا متهمون لدى وقوع أي حادث أمني».
—————————
عندما يغيّر اللغم حياة عائلة
كان يوسف الحجيري (أبو أحمد) مشتاقاً إلى أرضه كما بقية مزارعي عرسال. مع تحرير الجرود قصد بستانه في منطقة المجر في الجرد وبقربه جلست فطوم، زوجته أم أحمد، وفي المقعد الخلفي رافقه أربعة من أحفاده وابنته التي ما زالت عزباء.
ما إن وصل أبو أحمد إلى الجل أمام منزله حتى أوقف «البيك آب» وطلب من أحفاده وابنته النزول والبدء بقطف أشجار الكرز «إنتو قطفوا الكرزات وأنا بصف البيك آب ورا البيت»، قال لهم وأكمل طريقه وأم أحمد برفقته.
تقول فطوم الحجيري اليوم إنها لا تذكر سوى صوت انفجار قوي. بعدها استفاقت من غيبوبتها لتجد نفسها على بعد نحو عشرة أمتار من المنزل. لم تسمع سوى صوت صراخ ابنتها والأحفاد. قتل اللغم أبا أحمد فوراً، فيما قذفها بعيداً مع فقرتين مكسورتين من ظهرها. أصابها اللغم بحروق في وجهها وعينيها. بدأت أم أحمد تزحف تارة وتحاول السير تارة أخرى حتى رأتها ابنتها التي كانت تندب أباها وأمها. قالت الصبية للذين ركضوا لإسعافهم «ما بقي شي من أمي راحت نساسير (أي قطع صغيرة)». هي لم تر أمها وقد قذفها الإنفجار بعيداً.
مع استشهاد أبي أحمد بلغم أرضي تركه المسلحون في الجرد، وتعطُّل أم أحمد التي لم تعد قادرة على العمل، ترك ابنها خالد (18 سنة) تعليمه وتفرغ للعمل لإعالة العائلة.
تقول أم أحمد إن خالد يعمل ليلاً نهاراً ليتدبر أمر علاجها «ما عندي تغطية وزارة الصحة، حتى أنهم لم يعترفوا ببطاقة وزارة الشؤون الإجتماعية». سبق للمرأة، التي تغص بكل كلمة تنطق بها، أن خسرت شابين «توفي الأول بحادث سيارة فيما قضى الثاني بسكتة قلبية، ما كنت بعد زوجتهم وفرحت فيهم».
أورثها انفجار اللغم ضغطاً في القلب والشرايين، ووجعاً دائماً في الرأس، وندوباً كثيرة في الوجه «نطالب الدولة بالالتفاتة تجاهنا، نريد تنظيف جرودنا من الألغام، لا أريد أن أخسر خالد أيضاً».