«طلب العسكري الواقف عند الحاجز من السائق التوقفَ إلى يمين الطريق، كنا نحو ثلاثين امرأة وصبية محشورات في مؤخرة الشاحنة الصغيرة التي أرسلها صاحبُ بستان المشمش كي تقلَّنا إلى بستانه لقطاف موسمه في أيار الماضي، بقينا أكثر من ثلاث ساعات تحت الشمس من دون أن يوجِّه إلينا أي سؤال، بعد ذلك أشار على السائق بالعودة. في اليوم التالي تكررت الحادثة نفسها من دون أن نتمكنَ من معرفة الأسباب. وفي اليوم الثالث رفضنا الذهابَ مع سائق الشاحنة، وما هي إلاّ ساعة من الزمن حتى حضر صاحبُ البستان وانهالَ علينا بالشتائم والتهديدات».
ذلك غيضٌ من فيض المعاناة الذي روته نازحةٌ سورية في البقاع الشمالي اضطرتها ظروفُ العيش للشغل هي وأولادها بقطف المواسم لقاءَ دولار واحد عن كل ساعة عمل، رجت بشدة عدم ذكر اسمها أو الدلالة بأي إشارة ترمز إليها لأنها تعيش منذ مدة هاجسَ بعض التعدّيات والمداهمات الأمنية، وأنهتْ هامسةً:
«قد لا تصدق، هذه الايام أنامُ بعينٍ واحدة».
* * *
غالبية النازحين السوريين في البقاع الشمالي لا يستيقظون على قلقٍ عتيق، فهمومُهم تتناسل كل صباح، والأرضُ التي خَبِرَ بعضُهم سكانَها بحكم الجيرة أو العمل في الزمن الغابر لم تعد هي نفسها، بدءاً من بلدة «اللبوة»، مروراً بقرى «النبي عثمان» و«العين» و«الجديدة» و«الفاكهة» و«رأس بعلبك» و«القاع» ومشاريعها، وصولاً إلى «الهرمل» وحدودها الشمالية عند بلدة «القصر»، حيث توزع بعضهم في بيوتها وبساتينها، لكن غالبيةَ مخيماتهم انتشرت في منطقة مشاريع القاع على طرفي الطريق الواصلة بين الأمانتين السورية واللبنانية، بينما توزع عددٌ قليل منها عند الحدود الشمالية لجهة «الهرمل» وفي خراج بلدتَي «رأس بعلبك» و«الفاكهة».
سنة بعد سنة تتراجع أحوال أهل هذه المخيمات على كل المستويات، كما آمالُهم بالعودة إلى الأرض التي نشأوا وعاشوا فيها، بينما تزداد معاناتهم:
بسبب عنصرية اللبنانيين التي تتزايد يوماً بعد يوم، وارتيابهم من وجودهم في منطقة تناصر قواها السياسية الفاعلة النظامَ السوري بينما يتم تصنيفهم على خانة المعارضة السورية وفق الفرز المذهبي للحرب هناك، ذلك الارتياب الذي ازداد بعد خطف الجنود اللبنانيين من «عرسال»، وما رافق ذلك من خروج بعض المسلحين السوريين بعتادهم الكامل من المخيمات هناك، فتكثّفت أعمال المراقبة ودخلت بعض القوى الأمنية اللبنانية على الخط، وكثرت زياراتُ الليل التي طاولت الكثيرين في المخيمات وفي البيوت، ولم توفرْ حتى الرعاة.
بسبب إنتهاك البعض لحقوقهم في كل مرة يذهبون فيها إلى دائرة رسمية، فقد صار مألوفاً مشهد السوريين الجالسين تحت الشمس بانتظار رضا الموظف في مراكز الدولة لا سيما منها الأمنية، وذلك يحدث في ظل غياب أية محاسبة أو رقابة، وهو يؤكد صحة تقارير المنظمات الحقوقية التي تتهم لبنان بأنه ينتهك حقوق الأجانب فوق أرضه.
بسبب قيام الأمم المتحدة بتخفيض مخصصاتهم نحو 55 % حتى صارت حصة النازح المسجل عندها نحو 13 دولاراً شهرياً ثمناً لمأكله وملبسه، علماً أنه ممنوع من العمل وفق القانون اللبناني.
بسبب السياسات التربوية الخاطئة التي ينتهجها لبنان وهيئات الدعم الدولية، والتي جعلت أولادهم فعلياً خارج المدارس مما سيؤدي إلى كارثة اجتماعية جديدة في المستقبل القريب لأن ظروفَهم تسوء يوماً بعد يوم على أكثر من مستوى.
بسبب الاستشفاء الاستنسابي الذي لا يغطي إلاّ 65 % من حالاتهم الطارئة وفواتير المستشفيات المضخّمة التي لا ترحم من دون وجود حسيب أو رقيب، علماً أنهم محرومون من أية علاجات أو تحاليل دورية أو وقائية.
المساعي الجارية حالياً لإقامة مخيم مركزي يجمعهم إلى جانب الطريق التي تصل «القاع» بـ «الهرمل»، مع ما يحمل ذلك من هواجسَ أمنية وإشارات إلى استمرار الأزمة السورية وصعوبة حلها، وإمكانية تكرار سيناريو التهجير الفلسطيني، علماً أن غالبية أبناء هذه المخيمات لن يستطيعوا الرجوع إلى أرضهم بسهولة، فذلك حتى الآن ممنوعٌ في مدينة «القصير» والقرى المحيطة بها حيث ترددت مؤخراً أنباءٌ صحفية عن بدء الدراسات والأعمال التحضيرية لترميم بعض البيوت هناك تمهيداً لنقل أبناء القرى الشيعية المحاصرة حالياً في ريفَيْ «حلب» و«إدلب» ضمن إطار صفقة مع مسلحي المعارضة في مدينة «الزبداني»، كما أن العودة إلى شمال سوريا مستحيلةٌ حيث يسيطر تنظيم «داعش»، وغالبية هؤلاء النازحين هم من هذه الأرض أو تلك.
بسبب تناقص فرص العمل يوماً بعد يوم، لا سيما في القطاع الزراعي حيث الخسائر السنوية تزداد بفعل تعذّر تصدير المنتجات في البر إلى دول الخليج العربي.
بسبب قوانين الإقامة التي حرمت من لم يحمل عند نزوحه أية أوراق ثبوتية من تسوية أوضاعه القانونية، حيث أن إعطاءَه إقامةً مؤقتةً لمدة ستة أشهر جاء مشروطاً بعودةٍ مستحيلة إلى سوريا بعد ذلك.
* * *
فعلاً، لقد نأت الدولة اللبنانية بنفسها، ونجحت بعدم تأدية أيّ دور إنساني يخفّف من معاناة الذين نزحوا إلى أرضها هاربين من جحيم الحرب السورية.