هكذا عشتُ منذ 30 عاماً طفلاً نازحاً مررتُ بلبنان

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 15 7 دقائق للقراءة
هكذا عشتُ منذ 30 عاماً طفلاً نازحاً مررتُ بلبنان
ولدتُ كما لم يولدْ أحد. اعتدى «أبي» على أمي. اغتصبها ثم طردها. و«أبي» زعيم عشيرة في الشمال السوري. نساء العشيرة وفتياتها حلال له. تقليد سافل يخضع له أفراد العشيرة. ولدتُ كما لم يولد أحد. أمي المطرودة والطافرة مداواة للعار، أحسَّت بالطلق، فانتحت مكاناً منبسطاً في بقعة غير مأهولة من البادية، وقامت بترتيب الولادة القريبة.
حجر مسنون، به، قطعت حبل السُرة. هكذا روى لي خالي حكاية قدومي إلى هذا العالم. قال لي: «ضمّتك إلى صدرها وأرضعتك من حليب ثديها ودمع عينيها. كانت تبكي وتبتسم». لغة أتقنتها أمي في حياتها.
من العار ولدتُ ومن الاغتصاب خلقت. ولعل اسمي، نادر، يتناسب مع طريقة وفادتي إلى العالم.
عندما عادت أمي إلى مضارب أهلها، أخفتني عند خالي، رفيق رحلتها السرية مع العار. اخترع خالي قصة لحمايتي من أذى الصبية وألسنة الرجال ونميمة النساء. قال: «يتيم نربّيه». وقام بتربيتي وتنشئتي كيتيم. باكراً، أرسلني إلى ما يشبه المدرسة. تعلَّمت بشغف. تعلّقت بالحروف وبالأرقام. جنة هي الحروف وعالم من الألغاز هي الأرقام. بينهما عشت ولعبت وكبرت. اكتشف خالي سر محبتي للكتاب. كان يراني أتدرّب على الإملاء ثم على الإنشاء ثم على تقليد نصوص الكتاب.
كبرتُ. أمي تعاملني أمام الناس كيتيم، وعندما تختلي بي، كانت تبكي وتضحك. تضمّني إليها وتجعلني لعبة بين يديها.
كبرتُ أكثر. صرت فتى يافعاً. أذكر أني كنت أسترق السمع إلى الإذاعات مما تيسَّر من مذياع وأقرأ المناشير. أحسست أن وطني هو البديل عن أبي. نشيد «سوريا يا حبيبتي» كنت أنشده كأنه من تأليفي.
وفجأة، ولد ربيع عربي، كانت ولادته طبيعية. ولد، كما يولد الأطفال، من رحم بعد مخاض. ولد أولاً في تونس. فرحتُ. انتقلت العدوى إلى القاهرة، فرحتُ وانتميتُ وتمنيتُ لو يصل دمشق. وصل الربيع إلينا، وكانت الكارثة، كان ربيعاً قانياً، موحشاً وحشياً. وصل إلى مناطقنا في الشمال السوري أسود قاتماً. يشبه الرماد بعد الحرائق. لم تعد الحياة ممكنة، الموت سيد الساحات. ضيفٌ يوميٌّ لقرى وبلدات وشوارع وأزقة. القتل، من هوايات حَمَلة البنادق. البنادق المتبادلة والمضادة قتلت «الربيع». مات. لم يعد لشيء معنى، سوى معنى النجاة، من أجل حفنة من الأيام الكالحة. حَمَلة البنادق بلا رحمة، تتشابه في القتل.
وكالبدو خفّت أقدامنا وكالنور صرنا ننزح من مضارب الإقامة. نجونا مراراً، ومرة، كان حظ أمي، شظية من قذيفة. وكان من حظي أن أدفنها بيدي. امتنعت عن وضع إشارة أو شاهد على مرقدها، فلتبق الضحية مجهولة إلى الأبد. من حقي وحدي أن أحتفظ بها في قلبي وهكذا كان. فأنّى كنت وأنّى حللت، ظلت أمي «آمنة» ذخيرتي المعلقة في قلبي.
عرَّفني خالي على شخص ذي نفوذ. «هذا قادر على تأمين انتقالك إلى لبنان. أنا لا أستطيع. سأبقى هنا». كان «الشخص» رجلاً مسلحاً يقود مجموعة من الشبان والفتيان. لم أهتمّ كثيراً لصفاته. لم تثرني طريقته في قذف الشتائم وادعاء الشجاعة. «هذا أمهر المهرّبين... اطمئن». قال خالي، ثم دسّ في جيبي نقوداً ورسالة في مظروف وطلب إليَّ أن أقرأها بعد بلوغ الحدود اللبنانية.
دخلتُ لبنان خلسة. وعند مفترق الطريق الترابي الذي يودي إلى المصنع، فتحت المظروف وقرأت ما يلي: «الرجل الذي أمّن تهريبك إلى لبنان، هو أبوك».
غامت الدنيا. شعرتُ بغثيان. وددتُ لو أعود. لم أعرف ماذا أقول... وكنتُ كلما ابتعدتُ عن الحدود، أنسى أني موجود. رجال القافلة ونساؤها يسيرون على إيقاع حذر، خوفاً من الوقوع بين أيد أمنية، تعيدنا من حيث أتينا... فجراً، وصلنا إلى طريق ترابي تنتهي إلى مخيم.
هذا هو البديل عن وطني. صرتُ مواطناً في وطن من خيام، بلا أرض ولا علم ولا أحد يعرفك...
ماذا أقول عن إقامتي في لبنان؟ أتذكّر مرارة النزوح وثقل الحضور. صرنا أرقاماً. نصحو على تعداد وننام على تهمة. كنت قد عرفت الوحول في طفولتي. كنت عرفت النوم في العراء، بسبب الفقر والطفر. كنت أعرف العذابات الصغيرة التي تنتهي بعناق أمٍّ ونوم في حضن. وكنت أحتمل كل ذلك. الفقر في الوطن ليس لعنة. اللعنة أن تكون فقيراً في الغربة. لبنان، الذي استقبلنا أعداداً، تعامل بعضه معنا، ركاماً.
بعد صدمة الأيام الأولى، عرفت أن اللجوء صعب جداً. الحصول على صفة لاجئ، يلزمها أن أنخرط في السباق: أتسجّل في «أمم»، أنتظر ثم أنتظر، وبعدها تحضر بطاقة اللجوء، مع ما فيها من مذلة. هي البديل عن بطاقة هويتك ووطنك وأرضك. تصير مجهولاً تاماً، اسمك هو رقمك وهو ذو صلة بما قبله وبمن بعده. لكن عزائي كان في أن أصبحت عالة على «الأمم المتحدة». ظننت أن العذاب اليومي والتهديدات المستمرة، بالجوع والإقامة والمنامة، ستتوقف. فأنا مواطن دولي... لم أشعر بطمأنينة. آكل بالصدفة، أنام من دون مواعيد، أينما كان وكيفما كان. أسير وخطواتي تدلّني على الطرقات، إلى لا مكان وضعت نصب عينيَّ أن أجد عملاً ما. أي عمل. لن أتسوَّل أبداً. جُعت مراراً، أصبتُ بزكام حاد. ليالي البرد كانت طويلة، نهارات القيظ كانت حارقة... كنت كغيري، ولداً راشداً، ألعوبة الفصول، نعاني الوحل والغبار، ونتطلّع إلى «خبزنا كفاف يومنا»، وقلَّما كنا نحصل عليه.
مراراً، كنت أفكر بالعودة. جبنت. العيش بلا أب ليس كارثة. ثم، انتظمت المساعدات «الإنسانية». أكره الشفقة. لقد ارتكبوا فعل الشفقة. ذل يتجدّد، أن تقف في صف طويل، لتنال حصتك أو ليعاينك طبيب على عجل. لا زلت أحفظ في ذاكرتي ما أُقدم عليه رجال ومخاتير وبلديات. قدموا لنا الكثير. ولكن كثيرهم قليل علينا. نزوحنا لم يتوقف. كنا مئات، ثم مئات المئات، ثم لم يعد للأرقام محطة ترسو عليها. صرنا فوق طاقة الجمعيات الخيرية وتقديمات القرى والبلديات.
قلت، أبحث عن عمل، وجدت أعمالاً كثيرة. كنت أخجل من وجبة مجانية، وأملك جرأة وشجاعة أن أعمل، أي عمل. لا أحبّ أن أسرد الأعمال التي قمت بها، لقاء ليرات زهيدات. عملت في محطة وقود. أغسل وأنظف. عملت في تصليح الإطارات. نجحت. عملت في نقل الأغراض. عتالة موسمية. عملت في الحقول والمقاهي. كنت أملأ معدتي على الأقل، بخبز من عرق جبيني. ولما استقرّ بي العمل، رحت أشعر بشوق إلى الكتاب أو إلى أي منشور أو بيان. مرة رآني رجل أمام محطة الوقود. كنت أقرأ. لفته أني أقرأ. دعاني بـ «يا ولد». قلت له: لي اسم. اسمي نادر. عاد ودعاني يا نادر. هل تحب القراءة؟ أومأت برأسي. قال: تعال. ومشيت خلفه إلى بستان كبير، بعيد عن البلدة. ووسط البستان بيت بسقف قرميدي...
أطعمني. ألبسني. طمأنني عندما قال: تنام هنا، في غرفة تحت الدرج، قريباً من مسكبة الزهور وجلالي الخضار.
المعلم نصَّار، كان غريب الأطوار. عندما يُحضرني ليتحدّث معي أو ليطلب مني أمراً، كان يصمت ثم يتنحنح ثم يصمت. لا تفك عقدة لسانه إلا عندما يسألني عن الكتاب الذي أقرأه. كان كاتباً. مرة طلب مني أن أسرد له ما قرأت. لم تكن موهبة الشفهي قد راودتني. تأتأت. تلعثمت. ثم قال لي حسن وصرفني. لم يسألني عن أهلي. لم يقل لي مَن أنت؟ اعتبرني ولداً من أبناء بلدته.
لم يكن كريماً ولا كان بخيلاً. كان معتدلاً في كل شيء. أشتغل في البستان عندما يطلب مني، ثم رحت أعمل في البستان من دون أن يطلب مني. ما كنت آكل إلا عندما يعرض عليَّ، ثم صرتُ أُعدّ الطعام وأدعوه لوليمتي... نوع من البنوَّة أو شيء من الأبوية في العلاقة.
بعد أسبوعين، خيَّرني، بين أن أذهب إلى مدرسة أو أن أعمل في البستان. تشاطرت عليه: أعمل في البستان بعد عودتي من المدرسة. وهكذا كان، وفي آخر العام الدراسي أجرت بعثة فرنسية مباراة بين التلامذة. فزت بالمرتبة الأولى. فرح المعلم نصّار، وقال لي: حضر نفسك للسفر. أريدك أن تتعلّم أكثر.
ماذا أقول عن المعلم نصّار؟ ما عرفته عنه، أنه كاتب ومتقاعد، وأنه لم يتزوّج. آثر الوحدة على العائلة. يعيش من تقاعده وبعض ما يجود به البستان الكبير. هل كان مثل أب لي؟ لا. أرادني أن أبقى على مسافة منه. ولكن، عندما قرأت كتبه، عبرت المسافة التي تفصلني عنه. تعاملت معه وكأنه صديقي، مع ما بيننا من فارق عمر طويل. الصداقة مرتبة أرقى من الأبوّة.
إذ أذكره، تناولني مخيلتي فتاتاً من ماضيَّ الخاص، ووليمة من ماضيَّ مع المعلم نصّار. بسببه غفرت لبعض اللبنانيين عنصريتهم. إعلامهم كان أحياناً يهين شعباً برمّته وبلاداً بحضارتها. الأكثرية لم تكن كذلك. الذين استغلّونا كيد عاملة رخيصة، تسبّبت بكثير من الظلم إزاءنا، نحن السوريين. ظلمنا «رب عملنا» القاسي، وظلمنا اللجوء، بحلولنا في وظائف اللبنانيين المتدنيّة... جعلوا الفقراء ضد الفقراء. لعبة عنصرية ويمينية قذرة.
المعلم نصّار، أمّن لي منحة دراسية في فرنسا. علاقته بالإفرنج، علاقة حضارية. وفي فرنسا، تعلّمت وتفوّقت. استبدلت حرفة القراءة، بتأليف الأرقام. نجحت في اختصاصي. وصرت بعد أعوام، واحداً من أبرز العاملين في قطاع الاتصالات، ولي مؤسستي في إنتاج البرامج. وأشارك في المعارض الدولية، وأحل ضيفاً على الشاشات، بعد عودتي من زيارة لرئيس أو حاكم.
لم يمُت المعلم نصّار بعد. ظل معي بعد مفارقته الدنيا. صورته تتصدَّر غرف مؤسستي الكبيرة، وكلما زارني صديق، رويت له القصة التي كتبتها الآن.
شكراً للبنان. فليسامحنا، إذا أسأنا. ونحن نسامح من أساء إلينا. وأفدح ما ينقص حياتي، أنني أنتمي إلى بلاد عاشت التوحّش الديني والسياسي والإثني والطائفي... هل سأعود إلى بلادي؟ طبعاً، وعن طريق لبنان.
A+
A-
share
كانون الأول 2015
أنظر أيضا
01 تشرين الأول 2015
01 تشرين الأول 2015
01 تشرين الأول 2015
01 تشرين الأول 2015
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد