الخروج من السياسة

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 01 كانون الأول 15 5 دقائق للقراءة
الخروج من السياسة
© أنور عمرو
في سوريا، خرج العشرات ثم المئات فالآلاف من بيوتهم/ن للمطالبة بإسقاط نظامٍ سياسيّ. بعد خمس سنواتٍ تقريباً، يخرج اليوم الملايين من سوريا إلى العالم يطالبونه أولاً بالحماية. الحماية من النار، والحماية من انعدام الحياة.
السياسة في الحيّز العام. نحرتها. الخروج الثاني يسجّل اليوم عودة السياسة إلى الغرف المغلقة، في بلادٍ أخرى، تشرف على «الحدث»، قبل أن تدير الوجه نحو صياغة تتماته. خرج الناس لصناعة السياسة وأعيدوا إلى تلقّيها، تجرّدوا من الرشد السياسيّ بعد طيف امتلاكه لبرهة، ثم حُدّد لهم إطار وجودٍ ضمن القصور المعيشيّ: الناس يحتاجون إلى إنقاذ.
لا تجوز المقارنة بين حربيْ لبنان وسوريا. معظم المستويات تنفي نفسها عن هذه المقارنة لاختلاف الخصوصيات والواقعين. ومع ذلك، فإن الشيء بالشيء يُذَكر، في ركنٍ من الذاكرة يتكدّس فيه معاش الحرب. الملجأ، الحواجز، المشاهد، العلاقات.. لكنها، في الحالات التي شهدتها ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ما كانت تتسم بالصورة. ما كان في الحياة خبرٌ عاجل. ما كان فيها بثٌّ مباشر. ما كنا نرى، وإنما نسمع أحياناً وعبر المعارف. وإذا حُكي عن فظيعةٍ، يبقى الشكّ رفيق الحديث. فلربما كانت خيالاً، كذبة. اليوم، اختلفت الحال. ومع ذلك، إذا أخَذت العينُ مسافةً من ثقل الراهن السوريّ، ثقل الجريمة في حاضر حدوثها، تظهر للإعلام المكثّف حول الحرب صفةٌ إلغائية. فقد أتاح التفاصيل، كما أتاح الإجتزاء، التلاعب، وأتاح الكثافة. جثثٌ فوق جثثٍ، عنفٌ فوق عنفٍ، وصعدت «داعش»، خنقت العين بإنتاجها، حتى أُلغيت تقريباً أرض الحدث من الصورة، إما بسبب نواقصها في العلاقة مع السياق أو بسبب كثافتها في الحضور حدّ خسارة الاستثناء. بالطبع، لإسكات الصورة المحليّة أسبابٌ أخرى غير إعلامية، لعلّ أبرزها السبب السياسيّ. في المعركة، إخراس الصوت المحليّ هو ورقةٌ رابحة لديكتاتور كما لمروحةٍ من أطراف المعركة سواه. وقد ترافق إسكات الصوتُ المحليّ مع خروج السياسة من الحيّز العام. والشيءُ بالشيءِ يذكّر، هنا أيضاً.
ما بعد الإجتياح الإسرائيليّ لبيروت ومقاومته تحت تحقيق انسحابه، استباحت الحيّز العام حروبٌ عنقوديّة، لا تكاد واحدةٌ تجد وقف إطلاق نارها حتى تستعر أخرى. في هذه المرحلة من العمر اليافع، ما كان المحيط العائلي والمدرسيّ والعام يحكي بشيءٍ من السياسة. كان يحكي بإنهاكٍ عن المساعدات، المساعي، الضحايا، الأحداث، يومياتها، واليوميات إلى جانبها. ليس تأقلماً مشتهى، لكنه واقعٌ لا محالة. كما عاش الناس في بيروت الحرب الأهلية، ترينهم عاشوا في واقع العراق، في واقع «عقد الجزائر الأسود»، وفي واقع سوريا اليوم بشناعةٍ منفلشة وتصاعدٍ حادّ، شديد الدموية. تلك الصورة التي تم إسكات مضمونها السياسيّ وبالتالي عمق مسؤولياتها السياسيّة، صُنّفت «إنسانية» كتوصيفٍ علميّ أو بيولوجيّ لضحاياها. الإنسانيّة تحتاج إلى إغاثة، وهي فعلاً تحتاجها.
خرجت السياسة من الحيّز العام، وكانت بالكاد قد دخلته في سوريا. من ناحية السلطات، بدأ التفاوض «الجدّي»: موسكو، فيينا، جنيف، ومن يدري أيّ من المدن ستحمل اسم «طائفٍ» ما. من ناحية الناس، ما عاد في الأفق رهانٌ سياسيّ حرّ: الوصول إلى نهايةٍ للحرب الأهلية اللبنانية عجّز الشعب حتى عن المطالبة بتغيير الوجوه الدامية. انعجنت بنا، هذه الوجوه، وفرضت سطوةً على الحيّز العام خارجها. لم يتمكّن الناس من رفع «القدر» الآتي ببذاتٍ غير عسكرية، وبعضهم لم يرد رفعه. أساساً، ما كان في الصورة سواها. مات من مات وعاش من عاش، وحلّت المصالحة على مجتمعات تلقّت المصالحة، كبتت مشاعرها تجاهها، ولم تعشها. يكون ذلك ممكناً لمّا يكون حتى التنفّس صعباً: فالشعوب التي انتقلت إلى مرحلة الإغاثة الإنسانية في سيرتها السياسيّة هي شعوبٌ ابتلعت كثير الموت والصعب.
ارتفع الصوت الإغاثيّ في أرجاء العالم، فواجهه بعض الناشطين السوريين هنا وفي أوروبا برفضٍ لتجريد الإغاثة من البعد السياسيّ. أتى ذلك بغير قوّة. لهم/ن، بدا البعد الإغاثيّ كتجريدٍ للضحيّة من صوتها السياسيّ. انتقدوا/ن في الندوات والإعلام تلك الفيديوهات الخالية من السياسة، والتي سعت إلى تقريب الحال من أفهام مواطني أوروبا، وقد نفّذتها منظمات إغاثةٍ عالمية مثل «سايف ذى تشلدرن». وفي هذا النقد بعض ترفٍ ليس في مستطاع المغدقين/ات في الصعب. جهود الإغاثة تحتاج إلى تفادي الإلتباس وأسئلته، لتحشد خلفها مَواطن الدعم. الفصل بين البعدين السياسيّ والإنسانيّ هو إشكاليّ على عدّة مستويات، لكن التخليّ عن الإنسانيّ كرمى لعينيّ السياسيّ في سنواتٍ كهذه هو ترفٌ. كما أن إسكات السياسة في الحيّز العام ليس واقعاً مسقطاً من أعلى فحسب، فهو أيضاً نتيجة واقعها في هذا الحيّز العام. على مرّ السنوات الخمس الأخيرة، لم ينشأ تحت النار خطابٌ سياسيّ يتماسك في تقديمه للناس قراءات مغايرة، ولا نشأ حول السياسة حراكٌ نقديّ ذاتيّ يبقيها واعية لواقعها. لم تكن الأرض السياسية خصبة، فما استعصى إسكاتها.
الخطاب السياسيّ خارج أروقة الأنظمة العالمية، بقي حتى اليوم قطبياً. الحياة والموت يأتيان للدلالة على إجرام نظامٍ أو للتأكيد على فساد ثورة. ثنائية طحنت كلّ خبرٍ ومأساة وموقفٍ واسم صاروخٍ وبرميل، ساقتها كأمثلة على صوابية موقف، صوابيته القاطعة. القطبية السياسية استهلاكيّة. لا تنتج غير نفسها، تعيد إنتاج نفسها. ينتصر الإنسانيّ مجرّداً من السياسيّ لمّا تضحي يوميات المصيبة وقوداً للقطبيّة السياسيّة. فيخرج الأمل عنها، ليتمنى شقّ حدودٍ وسجونٍ، بلوغ بيتٍ، حفظ حياة. معاندة أحقيّة ذلك هي ضربٌ من الوهم.
الخروج من الحيّز السياسيّ إلى الحيّز الإنسانيّ هو انتقالٌ لهذا الشعب بين موقعين لم يألفهما فعلياً في زمنه الحديث. عاش الناس في سوريا لعقودٍ ممنوعين من الحيّز السياسيّ بالقوة طبعاً، ولكن أيضاً مقابل مكتسباتٍ تدجينية لعلّ أبرزها الحماية من بلوغ «الحيّز الإنساني». لن نكون «لبنان» ولا «العراق»، وتلك «مكافأة» البقاء خارج السياسة.
إن الإبقاء على الحياة شكّل «مكافأة» الخروج من السياسة.. وها هو اليوم يشكّل ظرف استعادة الحياة، بعد هذا الخروج. الخروج الأول سجّل اللحظة السياسيّة الأولى التي اشترك في صياغتها الحشد، المتظاهرون والمتظاهرات، أهل البلد، بعد عقودٍ من حكم جماعةٍ حرّمت
A+
A-
share
كانون الأول 2015
أنظر أيضا
07 أيار 2020 بقلم جورج حابك، صحافي
07 أيار 2020
بقلم جورج حابك، صحافي
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد