تجلس كيلي (22 سنة) على كنبة والدها بالقرب من الشباك المُطلّ على البحر في منطقة الأوزاعي، تراقب الطائرة خلال هبوطها، ثم تقول: «أكره هذا البحر اليوم، كنا نجلس، كلنا، يومياً في هذه الغرفة المتواضعة، نأكل ونشرب ونضحك، ولكنهم قرروا المغادرة وأنا قررت البقاء».
حسم مايز صفوان أمره يوم قرّر التوجّه إلى أوروبا، ظناً منه أنها سوف تغيّر مجرى حياته. وانطلق في تشرين الأول الماضي مع 11 فرداً من عائلته من بيروت باتجاه اسطنبول بتركيا، ليستقلوا الباص إلى منطقة «إزمير» الساحلية. هناك، كانت القوارب جاهزة لتنقل المهاجرين إلى سواحل اليونان. لكن الرياح جرت بما لا يشتهي مركبهم الذي غرق في عرض البحر.
كيلي وميرنا، الابنتان الأكبر سناً، قررتا البقاء في بيروت وعدم الخوض في غمار مجازفة لا تشبههما. تروي الصبيتان الأسباب التي دفعت بوالدهما إلى اتخاذ القرار الصعب، ومنح البحر ثقته وتقول ميرنا: «قيل له إن الطريق سهل، وإن الوصول من اسطنبول إلى إزمير بسيط، وإن رحلة المركب لن تستغرق أكثر من ساعة، وإن الطقس جيّد ومعتدل في تلك الفترة، قيل له أيضاً إن رحلة الوصول إلى ألمانيا ليست بشاقة، ولكن عائلتنا لم تصل إلى شواطئ اليونان حتى».
عائلة كيلي وميرنا ليست العائلة اللبنانية الوحيدة المقيمة في بيروت والتي دفعت بها الحكايات المتناقلة على ألسنة المحيطين بهم إلى المجازفة في البحر، لكن الفتاتين قررتا أن ذلك البحر ليس لهما، تمنّتا التوفيق للعائلة، وجلستا تنتظران وصولها إلى بر الأمان، لكن هذا الأمر لم يحصل لأن الصفقة التي أتمتها العائلة كانت مشبوهة وغير موثوقة، أما موج البحر فكان غداراً.
وعلى المقلب الآخر، تتنقل مايا (35 سنة) خلال توضيبها البضاعة في محل تجاري بيروتي، تنظر إلى هاتفها تارةً، وتعود لتفقّد لائحة الأسعار تارة أخرى. هذه الصبية اللبنانية رفضت مغادرة بيروت مع زوجها الذي قرر التوجه إلى ألمانيا منذ أشهر، عبر البحر أيضاً. «هي مخاطرةٌ كبيرة، وبصراحة أنا لا أملك الشجاعة. وعلى الرغم من أننا لم نرزق بأطفال بعد ما يُسهّل التنقل والرحلة، ولكنني لا أريد الموت غرقاً».
ودّعت مايا زوجها الذي انطلق إلى «بودروم» في تركيا، ومن هناك استقل قارباً نجح في إيصاله بسلام إلى اليونان. اليوم وبعد 6 أشهر، ينتظر زوج مايا الانتقال إلى منزل منفصل عن المخيم الذي حضنه في ألمانيا لأشهر، وهي تنتظر الأوراق التي تؤكد استيفاءها شروط «لمّ الشمل»، كي تجتمع بزوجها في أوروبا لتبدأ قصتهما الجديدة معاً هناك. وتقول مايا: «نحن لبنانيون، ومشاعري لا تزال مختلطة. أظن أننا بسفرنا نحرم عائلة سورية من حق اللجوء، ولكننا لا نملك مستقبلاً هنا، 600 دولار شهرياً لن تكفيني إن رزقت بطفل، وأنا اليوم أطمح لتأسيس عائلة وأقترب من الأربعين كل ساعة. أردت المغادرة ولكنني تركت له المجازفة، وقلت لنفسي: «إن وصل وصل، وإن لم يصل يكون قد اختار مصيره بنفسه».
تتنقل سارة بين بيروت وطرابلس لدواعي العمل، زوجها استقر في ألمانيا أيضاً منذ سنة، وهي اللبنانية الطرابلسية تنتظر أيضاً «لمّ الشمل»، لها ولأطفالها بعدما رفضت خوض مغامرة البحر. يوم قرأت خبر غرق عائلة مايز صفوان اللبنانية، قررت التريث بالسفر. «يوم سمعت ما حصل مع تلك العائلة، اتصلت بالمكتب الذي أمّن لي ولطفليّ الاثنين رحلة في البحر، وقلت له إنني لن أغادر، منحت مقاعدنا لشخص آخر، أخافتني فكرة غرق مركب أستقله وحيدة مع طفليّ.. من سأنقذ أولاً عندها؟ إبني البالغ من العمر 6 سنوات؟ أو ابنتي الصغيرة؟».
وتتابع: «سأنتظر ما يسمّى لمّ الشمل، سنة، سنتين، عشر سنوات، ولكنني لن أمنح البحر فرصة سرقة طفليّ مني. نجح زوجي باجتياز تلك العقبات وتحدّى البحر، ولكن لا ضمانة مؤكدة لنا».