مشهد الهجرة القاسي الذي يتصدّر الاهتمام الاعلاميّ اليوم ويثير قلقاً عميقاً على مستوى العالم بأسره، يناقشه العرض باستخدام مسرح الدمى والعرائس، في ما يخالف الصورة المطبوعة في أذهان الكثيرين بأن هذا النوع من المسرح تقف حدوده عند الترفيه عن الأطفال.
يتجنّب العرض إلى حدّ بعيد جداً التراجيديا في مقاربة هذه القضية، بل يتناولها بتعبيرات لا تخلو من الخفّة والسخرية والخيال واللعب والسحر والخدع المسرحية، بهدف الحديث مع الجمهور عن قضية الهجرة القاسية بشكل خفيف ومسلّ في إطار «مسرح الفرجة».
يخرج هذا العرض الصامت قليلاً عن قواعد مسرح الدمى، إذ يتحوّل كلّ شيء فيه على المسرح إلى دمية، من الحيوانات الداجنة في القرية التي لا يوفّرها الموت، والصواريخ المنهمرة من الطائرات على القرية الصغيرة، إلى حقيبة المسافر التي تعانده في قرار السفر وتأبى الرحيل، وقوارب المهاجرين التي تلعب الأمواج بمصائرها ومصائر ركابها، والبحر الكبير الهائج الذي يبتلع كلّ يوم عشرات الناس وأحلامهم وقصصهم ومآسيهم.. كلّها دمى تتشارك مع الممثلين وتتفاعل على خشبة المسرح.
أريد لهذا العرض أن يكون صامتاً تتماشى حركته مع الموسيقى الحيّة حيناً والمسجّلة حيناً آخر، رغبة في التعبير عن أن قضية الهجرة تتجاوز اللغات والبلاد، ورغبة في أن يتجاوز العرض في جمهوره المستهدف اللغات والبلاد أيضاً.
استخدمت في تصميم الديكور المسرحي والدمى على أنواعها مواد عادة ما ترافق مشوار أي لاجئ، وهي غالباً أوراق صحف وبلاستيك وكرتون، وهي أيضاً تدلّ على هشاشة واقعه أمام آلة القمع والحرب والرحلة القاسية.
ويروي العرض الممتد على قرابة الخمسين دقيقة قصة ترويها شهرزاد لشهريار عن شاب يعيش في قرية في بلد من الشرق تأتي عليها الحرب وتدفعه إلى مغادرتها، ثمّ تتوالى فصولها بين القرية الكرتونية الوادعة قبل أن تأتي عليها الصواريخ، وأفكار الهجرة التي تراود الشاب، وانتهاء به بين أمواج البحر قبالة شواطئ الحلم الأوروبي ووسط الأمواج العاتية ذات الهدير المرعب، في نهاية معلّقة مفتوحة، تماماً مثل السؤال الذي لا يجد جواباً له: هل ينبغي أن يهرب الناس من الحرب إلى خطر ركوب البحر والموت المحتمل مع كلّ موجة؟ أم يبقون في بلدهم في احتمال الموت اليومي مع كلّ طلقة نار؟، ومثل التناقض النفسي الداخلي للمهاجر بين البقاء في منبته حيث الخطر، أو أن يقتلع نفسه إلى بلد آمن لا يشبهه.
جالت مسرحية «ألف تيتانيك وتيتانيك» السويد والدانمارك وخصوصاً مخيّمات اللاجئين فيها، ثم انتقلت إلى بيروت ومنها إلى مخيّمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان، ومن بعدها إلى مهرجان قرطاج في تونس.
مع مخرج المسرحية محمود الحوراني وهو فلسطيني بريطاني مقيم في بيروت، كان هذا الحوار:
كيف اخترتم هذا الموضوع؟
أصبح موضوع الهجرة جزءاً من عيشنا اليومي، يلاحقنا في الأخبار اليومية، الأخبار التي نسمعها والمشاهد المؤلمة التي نراها عبر وسائل الإعلام، ولذلك فرض هذا الموضوع نفسه علينا، وقررنا تناوله في مسرحيتنا.
لماذا اسم «ألف تايتانيك وتايتانيك»؟
لقد حدث في بدايات القرن العشرين حادث غرق سفينة تايتانيك المؤلم، والمصادفة أن تلك السفينة كانت تحمل معها مهاجرين أيضاً.. في أيامنا اليوم يغرق كلّ يوم قارب وسفينة تخرج من بلادنا محمّلة بالمهاجرين، وتغرق في وسط البحر بشكل مأسوي.
هل تقول المسرحية شيئاً أبعد من أن تحكي مجرّد قصة إنسان مهاجر؟
نعم، المسرحية تروي قصة مهاجر، لكنها تحاول أن تقول ربما أن المهاجر ليس بالضرورة إنساناً مشبوهاً أو متهماً بشيء، بل أن المهاجر هو إنسان كان لديه يوماً ما بيت ومزرعة وشباك وأرض، ثم أتت ظروف دفعته لترك حياته في بلده والهرب إلى بلاد الآخرين.. وهي ظروف كلّنا يفترض أننا نعرفها.
ماذا يعني وجود شهرزاد وشهريار وجوّ ألف ليلة وليلة في أوّل وآخر فصل من المسرحية؟
يعرف العالم أجمع عن بلادنا في الشرق حكايات ألف ليلة وليلة، وربما يثير الشرق فضول العالم كلّه ويجذب إليه الكثير من المهتمين الغربيين بسحره ورونقه.. لكن الشرق ليس اليوم كما هو مطبوع في الذاكرة النمطية، ففي مرات عدّة، حين كنّا نسمع أخبار بغداد هذه الأيام، كنّا نتخيّل ونقول إنه «لو كانت شهرزاد تعيش في بغداد في يومنا هذا، كانت ربما لتطلب اللجوء إلى أحد البلدان الآمنة».
ومن جهة أخرى أحببنا من خلال مزاج لألف ليلة وليلة الموجود في العرض أن نقول إنه لا قصص جميلة تروى من بلادنا وتؤنس المستمع هذه الأيام، بل للأسف هناك قصص مروّعة وملمّة.. بساط الريح نفسه لم يعد حلاً في بلادنا، نريد ما هو أهمّ من مجرّد الانتقال ببساط الريح، نريد تأشيرات دخول تسمح لنا أن نخرج من بلادنا.
في ظلّ ما يجري في سوريا وهجرة السوريين الجماعية جاءت مسرحيتكم، هل هي عن السوريين تحديداً؟
ما يجري لأهلنا في سوريا مؤسف ومؤلم جداً، لكن مسرحيتنا هي عن الإنسان الذي أجبر على الهجرة وترك بلاده بشكل عام، وعن قسوة الحرب وتداعياتها، قد يحدث هذا وحدث في أمكنة كثيرة، ربما قد يكون في اليمن أو غزة أو جنوب لبنان أو كولومبيا أو حلب.
هل يمكن برأيك مقاربة موضوع قاس مثل الهجرة بأسلوب يلامس السخرية أحياناً كما فعلتم؟
نعم هذا ممكن جدا وفي عرضنا كان مقصوداً، أحببنا أن نطرح الموضوع بشكل فنيّ وإنسانيّ قدر المستطاع، لنضمن أننا نتحدث لقلب المتفرج وعقله معاً، أردنا أن نكون أقرب لقلب المشاهد، لا أن نطرح قضية مأسوية بطرح درامي يزيدها ألماً. وبالمناسبة، فريق المسرحية يضم عدداً من اللاجئين، وأنا نفسي لاجئ للأسف.