وقد يعاني المجتمع اللبناني من ثقوب في ذاكرته الجمعية لم تُعالَج بعد منذ طيّ صفحة حربه الأهلية، ومن استقطاب سياسي راهن يصعب زواله في المدى المنظور، ما يحول دون قدرته على احتواء التحدي الهائل الذي أنتجه نزوحُ ما يزيد عن مليون إنسان سوري إليه. لذلك، فالخلل في إدارة أزمة اللاجئين أمرٌ مفهوم منطقياً، خصوصاً إذا ما قيس هذا البلد بدولٍ تتجاوزه بأضعاف لناحية الإمكانيات المادية والجغرافية والبشرية، وتتفوق عليه بأشواط من حيث متانة أجهزتها البيروقراطية، وبرغم ذلك تعاني من تعثّر في التعامل مع مسألة اللاجئين، كما في بعض أوروبا مؤخراً، أو الشرق الأوسط قبل ذلك وبعده.
على أن الفراغ الذي خلّفته الدولة اللبنانية نتيجة ظروف عجزها الذاتية، فضلاً عن الصعوبات الموضوعية، أفسح المجال أمام كمٍ كبير من منظمات المجتمع المدني للعمل في مساحات مختلفة تتصل بقضايا اللاجئين، وسمح لها بتوسيع هوامش الجهد الإغاثي والحقوقي الخاصة بهم. كما أعطاها حافزاً إضافياً لخلق روابط بين المُجتمَعَيْن، الضيف والمُضيف، في ظل ظروف سياسية وأمنية محلية وإقليمية، لا تُساعد على مدّ الجسور.
لقد عمدت جهات رسمية لبنانية إلى معالجة بعض ما كان يعتَوِر وضع اللاجئين، بعد طول غياب عن الساحة ساهم فيه شحّ الدعم المالي الخارجي، وسوء التخطيط والإدارة المحليَين. فمن الناحية التربوية مثلاً، ومع بداية العام الدراسي الأخير، أصبح التسجيل في المدارس الرسمية اللبنانية لغاية الصف التاسع مجاني، للأطفال اللبنانيين والسوريين على السواء (بعدما كان يشتمل على رسوم سنوية وتكاليف أخرى)، ما يسمح برفع عدد المسجلين السوريين في الفئة العمرية ما بين 3 و 14 عاماً إلى نحو 200 ألف لاجئ، في حين كان العدد في العام الماضي يقتصر على حوالي 106 آلاف. علماً أن مبادرة من هذا النوع، كما غيرها الكثير من المبادرات الرسمية، ما زالت تعاني من نقص يتمثّل في عدم دمجها العناصر السورية المنتجة في دورة الإنتاج المعرفي - أي الأساتذة السوريين في هذه الحالة، حيث أن التعليم حُصر بالمُدرّس اللبناني فقط - على أي حال، فقبل المبادرة هذه التي أنتجها تعاون وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان مع «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» ومنظمة «اليونيسف» التابعة للأمم المتحدة، بعد أربع سنواتٍ ونيّف على اندلاع الأزمة، كان عددٌ من منظمات المجتمع المدني يبذل جهوداً كبرى لسد جانب من هذه الثغرة وفق إمكاناته. هكذا، مثلاً، قامت جمعية «جسور» السورية بالتعاون مع مدارس لبنانية كـ«جمعية المقاصد الخيرية» من أجل تأمين مستلزمات تعليم مئات اللاجئين، قبل أن تؤسِّس المنظمة لتعاون مع جامعات عالمية مرموقة، من بينها جامعة «كامبريدج» في بريطانيا التي تقدّم منحة سنوية في إطار هذا التعاون.
أما في مجال الدفاع عن حقوق اللاجئ الطفل، فقد عملت جمعياتٌ محلية غير حكومية على التصدي لتحديات، بعضها يتّصل بسوء الأحوال المعيشية للاجئين، وبعضها الآخر مردُّه إلى عادات اجتماعية مُقيّدة. فقامت بتنسيق برامج تؤسس لخلق بيئة مشجعة على التواصل البنّاء بين اللبنانيين والسوريين، على اعتبار أن الهمّ في هذا الإطار إنسانيٌ مُشترك، بل إن جانباً منه يتعلّق بعوامل تؤثر على قاطني البقعة الجغرافية نفسها. ومن بين المبادرات مثلاً تلك التي تنظمها جمعية «حماية» اللبنانية، التي تعمل على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للصغار المُعنّفين، في سياق أنشطة جماعية تضم في عدادها مشاركين سوريين ولبنانيين.
توازياً، وفي إطار الدعم الصحي، تقوم جمعيات محلّية برعاية برامج لتأمين المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، أو ما يُطلق عليه اصطلاحاً تعبير WASH (Water, Sanitation and Hygiene) يستفيد منها الجانبان. ومن بين هذه الجمعيات تبرز «مؤسسة عامل»، على سبيل المثال، التي ترعى، إضافة إلى أنشطة في مجالات إغاثية وتربوية، مشاريع تعالج المياه في مناطق ذات تجمعات سكانية يعيش فيها لبنانيون وسوريون جنباً إلى جنب.
وفي سياق المشاركة في تأهيل البنى التحتية، تقوم منظمات محلية، مثل «يوتوبيا»، بإشراك سوريين ولبنانيين في ورش لتحسين الأحياء التي يعيشون فيها والطرق التي يسلكونها يومياً (تقوم أيضاً بتجميل مناطق الاشتباكات التقليدية في طرابلس مثل باب التبانة). وفي الإطار التربوي، تعمل جمعيات مثل «تواصَل»، في إطار نشاطها الذي يركّز على تنمية قدرات ومواهب لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، على خلق مساحات من التفاعل بين هذه البيئات الثلاث، وهو ما يدلّ عليه اسمها الذي قامت لأجله. وفي العمل البيئي، ثمة من يعنى بعملية إدارة النفايات وإعادة تدويرها في التجمعات السكانية للاجئين كـ Arcenciel (جمعية محلية مُسجّلة في لبنان وفرنسا). ومن بين الجمعيات اللبنانية التي يتّسع نشاطها ليشمل مروحة واسعة من المجالات تبرز «مؤسسة مخزومي»، التي توفّر، فضلاً عن عملها الإغاثي والصحي والإنمائي، دورات تدريب مهني يشارك فيها لبنانيون وسوريون، وتُخرّج تالياً دفعات مختلطة من الجانبين.
ما ذُكر أعلاه مجرّد عيّنة من الجمعيات اللبنانية المحلية التي تعمل بالتعاون مع منظمات دولية كـ«المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» و«اليونيسف» في الأمم المتحدة، فضلاً عن هيئات في الاتحاد الأوروبي وأخرى لدول أوروبية بعينها (مثل DFID البريطانية و GIZ الألمانية)، وتوازياً أو بالشراكة مع منظمات غير حكومية دولية (مثل Save the Children و«أطباء بلا حدود»...). وأهمية دورها يُستمد أساساً من كونها منظمات محلية، تقدّم دعماً تربوياً وصحياً وبيئياً وتنموياً ونفسياً واجتماعياً، يساعد على مدّ جسورٍ بين اللبنانيين والسوريين، وتمتين أواصر العلاقة بين الجانبين، علماً أن هيئات الأمم المتحدة في الأزمات المُمتدة زمنياً (كما هي الحالة السورية)، تعمد مع الوقت إلى اشتراط تخصيص جزء من الموارد والمساعدات (التي تقدّمها للمنظمات غير الحكومية) لإعانة المجتمع المُضيف وتنمية قدراته، توازياً مع عملها الإغاثي والتنموي الذي يستهدف الضيوف اللاجئين.
وبرغم كل نقدٍ - وبعضه وجيه - قد يطال تنامي ظاهرة المنظمات غير الحكومية وآليات عملها وتمويلها وإسهامها في مزيدٍ من تآكل سيادة الدول على مستوى العالم (وليس هذا مجال بحثنا هنا)، إلا أن الجمعيات تلك باتت أداة لا غنى عنها في التعامل مع الحاجات الإنسانية في عالم يُمعن في تحديد ملامحه ما بعد الحداثية يوماً بعد آخر. أما في لبنان، ففي ظل الخلل الذي تعاني منه أجهزة الدولة، واتساع الجراح الاجتماعية غير المُعالجة على مدى أزماته المستمرة، ثمة أدوارٌ بالغة الأهمية تقوم بها تلك المنظمات اليوم، لعلّ أعمقها تأثيراً على المدَيَين المتوسط والبعيد، يتمثل بالتقارب الذي تنتجه مشاريعها، برغم الظروف والتّوترات غير المُساعدة، بين البيئة اللبنانية المُضيفة وضيوفها السوريين.