بيروت تحبُّ لاجئيها

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 16 أيلول 20 بقلم إياد تيسير، صحافي فلسطيني 5 دقائق للقراءة
بيروت تحبُّ لاجئيها
تشير الساعة إلى السابعة مساءً. تأخر أحمد عن موعده في صالون الحلاقة الرجاليّة. إستغرب الحلاّق ذلك، فأحمد خطبته اليوم، وكان قد أكد الموعد مراراً.

إنتظره علاء صاحب محل الحلاقة مطوّلاً. تراكضت عقارب الساعة وأشارت إلى الثامنة مساءً. تأكد علاء أن أحمد لن يأتي، فحفل الخطبة سيكون في التاسعة، ومن المحال أن يستطيع أحمد التحضير للحفل في ساعةٍ واحدةٍ فقط.

تشير الساعة إلى السابعة مساءً. تأخر أحمد عن موعده في صالون الحلاقة الرجاليّة. إستغرب الحلاّق ذلك، فأحمد خطبته اليوم، وكان قد أكد الموعد مراراً.

إنتظره علاء صاحب محل الحلاقة مطوّلاً. تراكضت عقارب الساعة وأشارت إلى الثامنة مساءً. تأكد علاء أن أحمد لن يأتي، فحفل الخطبة سيكون في التاسعة، ومن المحال أن يستطيع أحمد التحضير للحفل في ساعةٍ واحدةٍ فقط.

لم يذهب أحمد إلى خطبته أصلاً. أرسل الى حبيبته رزان رسالة صوتيّةً قصيرة، معلناً فيها تأجيل الحفل، وطالباً منها إخبار أهله أيضاً لأنه لا يملك الوقت لإخبارهم بذلك.

كان أحمد ينتظر هذا اليوم بفارغ الصبر. فبعد تجاوز كل العقبات المادية، ها هو حلمه قد تحقق وسيرتبط برزان رسمياً. ظل أحمد يؤكد لعلاء يومياً على مدار أسبوع موعده في الصالون. اشترى ثياب الخطبة، ودعا كل أصحابه وأصدقائه إلى الحفل. وأخيراً سيرتبط برزان، حلم عمره.

وقع الإنفجار الهائل. شاهد أحمد سحابة الدخان كما شاهدها كل سكان بيروت. ظهر مئات المستغيثين على شاشات التلفزة، فيما كانت سيارات الإسعاف تصرخ في شوارع العاصمة.

لم يأبه أحمد لحفل خطبته، ولا لأحلامه الكثيرة التي بناها لهذا اليوم. لم يأبه أيضاً لكل الروايات السابقة بأن بيروت لا تحبّ اللاجئين. وعلى عجل، ركب دراجته الناريّة منطلقاً من مخيّمه برج البراجنة إلى مرفأ بيروت موقع الإنفجار.

لم يكن أحمد الفلسطيني الوحيد الذي لبّى نداء العاصمة. فقد توجهت أيضاً فرق الدفاع المدني الفلسطيني إلى المرفأ. وهرع الكثير من الشباب الفلسطيني إلى المشافي للتبرّع بالدم. كما أن المستشفيات داخل المخيمات، وعلى الرغم من إمكاناتها البسيطة، إستقبلت عدداً من الجرحى. حبُّ بيروت لم يكن حكراً على لاجئيها الموجودين ضمن نطاقها الجغرافي. فقد انطلقت حملات شبابيّة عدة من المخيّمات الفلسطينيّة في الجنوب والشمال اللبناني للمساعدة في إزالة الردم وأعمال الترميم. شباب عاطلون عن العمل، حرمهم القانون اللبناني الكثير من المهن، وأنهكتهم الصور النمطيّة السلبيّة على أن مخيّماتهم هي بؤر للفساد وللخارجين عن القانون. ذهبوا من أجل إعادة إعمار بيروت، وهم ممنوعون أصلاً من إعمار منازلهم إلا بتصريح. دفعوا من جيبوهم الفارغة، وتبرعوا من مطابخهم الخالية أيضاً. توجّهوا إلى بيروت ليرسموا صورةً غير قابلة للشك ومتجاوزةً كل من وضع العقبات في درب حبّ بيروت للاجئيها؛ وليؤكدوا أن بيروت شقيقةُ القدس. لا يَغِب عن بال أحد أيضاً "حضن الروح" الذي أعطته بعض العاملات الأجنبيات للأطفال الذين يقمن برعايتهم. لقد قاموا فعلاً بالرعاية بأبهى صورها. وعلى الرغم من هول الإنفجار والصدمة الاوّلية، إلا أن هذه الفئة -التي ينظر اليها الكثير نظرة العبد- كانت ردود فعلها الأوّلية إنقاذ أطفالٍ تحبّهم بيروت، علماً أن الكثيرات من هؤلاء العاملات قد عانوا من نظام الكفالة المجحف، حتى وصل الحال بالكثير من أرباب العمل إلى رميهن في الشوارع وكأنّ مدة صلاحيتهن قد انتهت.

كل تلك الظروف كان من الممكن أن تتسبّب بمشاعر كره وحقد من هذه الفئة على بيروت، لكن العكس قد حصل تماماً. فقد نهضت العاملات المنزليات من الشوارع نفسها اللواتي رمين وأذللن فيها، ليشاركن في بلسمة جراح بيروت. لقد عملن من دون مقابل أو طلب من أحد، لكي يثبتن أن بيروت عصيّةً على الإنكسار، وهن أصلاً منكسرات..

ولحسن حظ هؤلاء العاملات وجدت كاميرات توثق ما فعلن، ليس من باب التباهي والرياء بل لِحُبٍ لطالما جرّبن ان يثبتنه بلهجتهن المتكسّرة. لكن تَرَفُعَ بيروت الذي حاول الكثير فرضه، منعهم من عكس هذا الحب ليأتي الإنفجار المهول، ولكي يقلن هؤلاء السمراوات الجميلات بأنهن يحببن ييروت ما استطعن اليها سبيلاً...

"بيروت مدينة قاسية، لكنها قاسية بشكل جميل. تشبه قسوة الأم على اطفالها، فهل باستطاعتك أن تكره أمك لأنها ضربتك؟ بالطبع لا، وهذا موقفنا نحن السوريين في بيروت"، يقول أبو العبد، عامل البناء سوري الجنسيّة والمقيم في لبنان منذ سبع سنوات، وهو

يتكىء على مكنتسه أثناء مشاركته في رفع دمار بيروت.

يعمل أبو العبد خلسةً في بيروت لأنه لا يملك إقامة قانونية بسبب القيود التي تفرضها السلطات، من تأمين كفيل لبناني ومبلغ من المال مع عدد من الأوراق، وهذا ما لم يتمكن من تحقيقه.

حمل أبو العبد مكنتسه. أطل من مكان عمله. إنطلق إلى شوارع بيروت جهاراً نهاراً. منذ فترة طويلة لم يمشِ علانيةً خوفاً من اعتقاله. لكنه هذه المرة لم يأبه لخطورة وضعه، ولم يستطع أن يكون متفرجاً على بيروت وهي تنزف. نزل للمشاركة في كفكفة دموع المدينة المكلومة، بعد أن ذرف دموعاً كثيرة في ليلها الحالك. 

لو كان هناك مقياسٌ للأكثر تعرّضاً للعنصرية والتمييز، لتصدّر السوريون في لبنان قمّة هذا المقياس بلا منازع. فالمواقف التي عاشها هؤلاء اللاجئون خلال سنوات الحرب، جعلتهم يكرّرون بأنهم هربوا من الموت في بلادهم، لكنهم عاشوه مراراً في لبنان. لذا، فوجىء كثيرون بالدموع التي ذرفها السوريون على بيروت. بكى السوريون بيروت كما بكوا الشام، وتنافسوا في ما بينهم لإظهار حبّهم لهذه المدينة. فمنهم من رهن محل المعجّنات، مدخل رزقه الوحيد لمتطوعي بيروت، ومنهم من قطع الكيلومترات شمالاً وبقاعاً لإعادة إحياء المدينة المنكوبة. أما القسم الآخر، فزاد في عطائه حتى قدّم روحه ومات في أحضان بيروت، ليشكّل السوريون نسبة الأجانب الأعلى بين ضحايا الإنفجار، وليقولوا إنهم إخوانٌ في هذا البلد، وبأنهم يتشاركون مع اللبنانيين حتى في الموت.

منح انفجار بيروت الفرصة لغربائها لكي يثبتوا حبّهم لهذه المدينة، حيث لم تنفع كل تجاربهم السابقة ولهجاتهم المختلفة بالتعبير عن هذا الحب. ليس رفضاً من المدينة بحدّ ذاتها، بل من حرّاسها الذين حاولوا تكريس صورتها التي تكره لاجئيها. وها هم حرّاسها قد قادوها حتى الإنفجار، بينما عاد لاجئوها إلى حضن مدينةٍ لطالما أحبّوها وأحبّتهم.
A+
A-
share
أيلول 2020
أنظر أيضا
16 أيلول 2020 بقلم فاطمة ضيا، صحافية
16 أيلول 2020
بقلم فاطمة ضيا، صحافية
16 أيلول 2020 بقلم زينب شمعون، صحافية و باحثة
16 أيلول 2020
بقلم زينب شمعون، صحافية و باحثة
07 أيار 2020 بقلم أنطوان عطالله، مهندس معماري وعمراني
07 أيار 2020
بقلم أنطوان عطالله، مهندس معماري وعمراني
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد