سجّل الإنفجار المدوّي الذي عصف بمرفأ بيروت خسائر على كل المستويات، وكشف عن بنية سياسيّة في غاية الهشاشة والتلكؤ، عجزت عن مواجهة الكارثة التي ألمّت بالبلد والتي ترافقت مع الأزمة الإقتصادية الأسوأ في تاريخ لبنان ومع التفشّي المتزايد لكورونا. لا مفرّ من ملاحظة غياب الدور الرسمي في مشهد ما بعد الإنفجار. إذ غابت الأجهزة الحكوميّة عن أداء مهامها، ولم نشهد دوراً فعّالاً مبادراً للبلديات أو تجهيزاً للمستشفيات العامة على الرغم من الحاجة الماسّة لإسعاف المصابين الذين لم يجدوا مكاناً. في المقابل، رأينا أناساً لا يتبعون لأجهزة الدولة يسعفون الجرحى، ينقذون العالقين تحت الركام، ويبادرون إلى تنظيف الطرقات وتوزيع المساعدات على المتضرّرين. حصل هذا في ظل غياب لأيّ دور رسمي فعّال في الإنقاذ، وفي المساعدة وجلاء الدمار. إكتفت الحكومة بالإستقالة بعد أيام من الإنفجار، من دون أي محاولة لتحمّل مسؤوليات جادة.
المجتمع الدولي لاعباً في مشهد ما بعد الانفجار
خلال الأشهر الماضية، إنغلقت الكثير من الدول على نفسها في محاولاتها للنجاة من كورونا، مما جعل الأزمة اللبنانية الاقتصادية تتعمّق من دون أيّ تدخل خارجي للإنقاذ، بالإضافة إلى العوامل السياسيّة الإقليميّة التي عزّزت الجمود الدولي حيال لبنان. لكن من الواضح أن حجم الإنفجار حرّك هذا الجمود، فالحدث نفسه كان مرعباً والصدمة العالمية كادت ألا تقل عن الصدمة الداخلية.
وفي سياق قراءة تحرّكات المجتمع الدولي، لا بدّ من إلقاء الضوء على المبادرات التي اتخذتها منظمات الأمم المتحدة، والدعوات التي خرجت من المنظمات العالميّة من أجل احتواء الأزمة على أرض الواقع. فمنظمات الأمم المتحدة المتمثلة في لبنان بالعديد من الهيئات والمهمّات، وضعت الرؤى والخطط وانطلقت لتنفيذ بعضها بالشراكة مع منظمات دوليّة أخرى، منظمات محليّة ومؤسسات رسميّة. في هذا المجال، قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية بإجراء مسح شامل في بيروت، لا سيما في المناطق المتضررة، وذلك من أجل تقدير الخسائر. كما وضع البرنامج خطة لمناصرة الخطوات التي ستؤمّن الحماية الإجتماعية والإقتصادية لسكان بيروت وقام بعملية تقييم للحطام والأضرار البيئيّة، بالإضافة إلى تقديم المساعدة القانونيّة بالتعاون مع نقابة المحامين. أما منظمة الصحة العالمية، فدعت بجديّة إلى الأخذ في الإعتبار تزامن الإنفجار من انتشار كورونا، وبالتالي الحاجة المضاعفة إلى ملاقاة حاجات سكان بيروت المتضرّرين بفعل الحدثين. كما قامت المنظمة بوضع خطة لتجاوز الصدمة وتوفير المستلزمات الجراحيّة والطبيّة، بالإضافة إلى تحريك المنظمات الطبيّة الأهليّة الفاعلة من أجل مداواة الجرحى، ناهيك عن تجهيز وحدات متخصّصة بالصحة النفسيّة، وذلك إستجابة إلى طلب وزارة الصحة اللبنانية. بالإضافة الى ذلك، قامت المنظمة بالتعاون مع منظمات عالميّة بتوفير مأوى مؤقت ومبالغ نقدية لمن أصابهم الضرر. أما منظمة الأمم المتحدة لشؤون المرأة، فأشارت إلى الأثر المضاعف الذي خلّفه هذا الانفجار على النساء، داعية في الاستجابة السريعة التي أطلقتها إلى تخصيص القسم الأكبر من المساعدة للنساء لا سيما المسؤولات مباشرة عن رعاية أسرهن. كما أنّ منظمة العمل الدوليّة، قامت ضمن برنامجها للتوظيف المكثّف بخلق 100 وظيفة مستعجلة لموظفين لبنانيين ولاجئين كانوا قد فقدوا وظائفهم بفعل الإنفجار. هذه الوظائف مرتبطة بأغلبيتها بإزالة الدمار والعمل على إغاثة الأماكن الأكثر تضرّراً. يعمل هذا البرنامج مع بلدية بيروت في محاولة للوصول إلى أكثر الأماكن المتضرّرة لناحية خسارة فرص العمل، إجراء المسح المناسب وتقديم المساعدة النقدية، بالتعاون مع لجان أخرى تابعة للأمم المتحدة. كما كانت لبرنامج الغذاء العالمي خطة يقوم من خلالها بتوزيع المساعدات النقديّة على العائلات التي تحتاج إلى الغذاء، ويقوم بدعم موزّعي الغذاء المحليين من أجل إيصال عيّنات غذائيّة مفقودة.
كذلك قامت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" بتخصيص 4.4 ملايين دولار من أجل تقديم مساعدات صحيّة، نفسيّة، نقديّة، وسكنيّة للأطفال والفئات الصغيرة سناً، وتأمين مياه نظيفة وكافية للعائلات، فيما أطلقت برامج تعنى بإشراك صغار السن في عملية تنظيف المدينة. كما قامت منظمة الـ UN Habitat من خلال وحدة الطوارئ العاملة فيها، بالتنسيق مع منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة، بوضع خطة لإعادة بناء البيوت المهدّمة وإيجاد مأوى للعديد من العائلات التي فقدت منازلها بشكل جزئي أو كامل. كذلك أطلقت مبادرة لجمع مخلّفات الدمار التي لا مجال لإعادة تدويرها، من أجل طمرها بشكل آمن بخلاف ما كان يجري في السابق. أما المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فقد خصّصت مبلغ 35 مليون دولار لمساعدة المواطنين، اللاجئين والمهاجرين من أجل تأمين المأوى والحماية خلال الأشهر المقبلة. كما تطرّقت منظمة "الأونيسكو" في بيانها إلى الضرر الثقافي والعمراني الهائل، ودعت إلى العديد من الإجتماعات مع وحدات من وزارة الثقافة ومنظمات متخصّصة لتقدير حجم الضرر العمراني والثقافي، والعمل على حثّ المجتمع الدولي المانح لتبني إنقاذ وترميم التراث اللبناني المهدّد. اللافت أن العمل التي قامت به هذه المنظمات هو عمل إغاثي في الدرجة الأولى، ما من شأنه أن يريح المجتمع المدني اللبناني من هذا العبء، فلا يستهلكه ولا يأخذه من دوريه في التنمية والمحاسبة.
بالتوازي، إنطلقت التصريحات الدوليّة لتظهر الإستعداد للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني. بادرت دول كثيرة، تصدّرتها الدول العربية بإرسال مستشفيات ميدانيّة ومساعدات مختلفة عبّرت بتفاوت عن مدى "إدراك" المحيط الإقليمي أو الدولي للمأزق الذي ترافق مع الكارثة أو خلّفته الكارثة نفسها. تراوحت المساعدات بين الأغذية، الأدوية، المواد الأولية والمواد النفطية... كما أعربت بعض الدول عن استعدادها للمباشرة في إعادة بناء بعض المرافق، كالمبادرة الكويتيّة لبناء إهراءات القمح المدمّرة في ظل غياب أي تعليق رسمي من قبل السلطة السياسيّة اللبنانيّة. كما انطلقت مبادرة أخرى قطريّة من أجل ترميم وإصلاح المدارس الرسميّة المتضرّرة مباشرة وليس عبر السلطات اللبنانيّة، فيما أطلق الفرنسيون مبادرات عدة أبرزها ترميم البيوت القديمة المتضررة.
كذلك برزت دعوات إلى قطع المساعدات المباشرة عن الدولة اللبنانية وأجهزتها وإرسالها بدلاً من ذلك إلى الجمعيّات الأهليّة الموجودة في الساحات. هذه الخطوة التي حظيت بتأييد شريحة واسعة من اللبنانيين الذين فقدوا الثقة بإدارة السلطة للأمور، حملت تشكيكاً من قبل شريحة أخرى فقدت الثقة بالسلطة والجمعيات على حد سواء. وقد خرجت الأخبار المتواترة حول قيام السلطات اللبنانية بالإستيلاء على المساعدات وبيعها في الأسواق. وسواء كانت هذه الأخبار صحيحة أم لا، فإنها قد أدّت إلى نشر الهلع بين الشعب اللبناني، ما يطرح أسئلة جدية حول مقدار انعدام الثقة بين الشعب والسلطة، لا سيما بعد تجارب مؤلمة من سوء إدارة الكوارث وسوء توزيع المساعدات منذ الحرب الأهلية وحتى كارثة المرفأ. هذا الأمر يلقي المسؤولية على الجهات المساعدة لضمان طرق آمنة تؤدي بهذه المساعدات إلى محتاجيها من الناس. ويبقى السؤال اليوم، عمّا إذا كان المجتمع الدولي سيتدخل بطريقة قد تؤدي إلى إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة ذاتها، فينتشل السلطة السياسيّة اللبنانيّة عبر رفدها بالمساعدات وبالشرعيّة الدوليّة التي قد تكسبها القدرة على الإستمراريّة كما في السابق، أو أنه سيتدخل بالقدر الذي لن يؤثر في محاولات التغيير إن حصلت.