لم يكن غبار انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 قد هدأ بعد عندما علا صوت الأحاديث التي تناولت خسارة التراث المعماري للمدينة. وبالتزامن مع ذلك، سارع أصحاب المنازل ودعاة الحفاظ على التراث وآخرون، إلى مسح الأضرار، وتقدير تكاليف الإصلاح، وتدعيم الجدران والأسقف المتهدمة تفادياً لعمليات الهدم، وعملوا قدر الإمكان على تجميع الركام من أجل إعادة بناء ما تهدّم. ووفقاً للتقديرات فإن عدد المباني التاريخيّة التي تحتاج إلى أعمال ترميم كبيرة، يتراوح بين ستين إلى ثمانين مبنى. لقد اتحدت الجهود الرائعة تحت راية منظمة كلها من المتطوعين، وتضم الكثيرين ممن عملوا بإخلاص من أجل الحفاظ على العمارة البيروتيّة لعقود من الزمان. ولكن إذا أردنا أن ننقذ التراث المعماري للمدينة، فلا بد لنا أن ننظر الى التأثيرات المترتبة على انفجار بيروت في سياق التحولات التي سبقت الانفجار. الأمر أكثر من مجرّد تصدّع. فقد تسبّب الإنفجار في تعجيل عملية التدمير التي كانت قد بدأت بالفعل منذ عقدين من الزمن فقدنا خلالهما المئات من المباني. ولتغيير هذا المسار، لا بدّ من وضع هذه التعبئة الجارية ضمن سياق محدّد وتوسيع نطاقها من أجل التصدي لكل التوجهات التي عاكست جهود حماية التراث قبل الانفجار.
أولئك المطلعون على تاريخ بيروت يدركون تماماً أن الأحياء المجاورة للمرفأ تعتبر رمزاً للتراث العمراني للمدينة. وفعلياً لم تتوسّع مدينة بيروت ويكبر عدد سكانها الصغير، والذي بلغ 10 آلاف نسمة، إلى أن بدأ ميناؤها يلعب دور المرساة الاقتصادية للمنطقة برمّتها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت تم إنشاء الكرنتينا، أو الحجر الصحي، حيث كان البحّارة مجبرين على المكوث في عزل مدته أسبوعين منعاً لانتشار الأمراض والأوبئة، قبل أن يُسمَح لهم بالاختلاط بسكان المدينة. وظل الموقع، ولعقود عدة، يقوم بدور المضيف لهؤلاء ولآخرين ممن لم يكن يرغب بهم آنذاك. واليوم، تؤوي الكرنتينا الفئات السكانيّة الضعيفة من العمال المهاجرين واللاجئين، واللبنانيين ذوي الدخل المنخفض والذين كانوا من الأشد تأثراً بالانفجار.
وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر أيضاً، بدأت المدينة تتمدّد خارج أسوارها، وعلى مدى قرن من الزمن توسعت على طول شارع أرمينيا حتى نشأت المناطق التي ربطت في نهاية المطاف بين المخيّمات الأرمنية في برج حمود وقلب بيروت التاريخي.
وخلافاً للأحياء المجاورة لقلب المدينة التاريخي، والتي تهاوت في التسعينيات بفعل الجرف الوحشي أثناء عملية إعادة الإعمار التي جرت ما بعد الحرب الأهلية، حافظت المناطق المحيطة بالمرفأ على عدد كبير من المباني الحجريّة القديمة والتي يجسّد العديد منها الطابع الفريد لعمارة بيروت خلال العقود الأولى من القرن العشرين. وعلى مدار العقدين الماضيين، جذب سحر هذه العمارة وطابعها الفريد مجموعة من المبدعين الشباب، وكذلك الاستوديوهات وورش العمل وأصحاب المطاعم والبارات، والزبائن والزوّار. وفي كثير من الأحيان لم يكن التعايش سهلاً بين هؤلاء وبين كبار السن من السكان الذين عانوا من الضوضاء والحياة الليليّة التي كانت تمتد لساعات متأخرة... ورغم ذلك، فإن المباني التي أزيلت أكثر من تلك التي تمّ الحفاظ عليها. في الواقع، إنّ مصالح الشركات العقارية ذات النفوذ وشركائها التجاريين في طبقة السياسيين والمصرفيين وجدت لنفسها فرصاً عديدة كي تستبدل هذه العمارة الصغيرة، والمتواضعة في كثير من الأحيان، بناطحات سحاب، فشل الكثير منها في بث الحياة والنشاط في الأحياء التي شيّدت فيها. إستطاعت هذه الشركات القيام بذلك لأنّ عدم توافر أي نوع من الحوافز والدعم لأصحاب الممتلكات، جعل ملكية هذه العقارات عبئاً على مالكيها. وجد هؤلاء أنفسهم عالقين بين مسألتين، القيام بترميمات باهظة الثمن وتحصيل إيجارات عفا عليها الزمن، في حين أن فجوة الإيجارات قد ازدادت بشكل كبير في المنطقة، فاضطر الملاك - الذين يتشارك الكثير منهم ملكيّة عقارات تشوبها تعقيدات متعلقة بالميراث داخل العائلة - إلى التخلي عن ممتلكاتهم لصالح أفراد أكثر قوة، وأحياناً مقابل حفنة من المال، لمجرّد أن الشاري بإمكانه أن يرفع التصنيف التراثي عن العقار وأن يقوم باستثمار مربح مرخص به اليوم وفق قانون بناء منقّح ومتساهل للغاية.
بينما نمضي قدماً في تطوير مسار استعادة التراث العمراني للمدينة، وهي مهمة بالغة الأهمية بكل المقاييس، من الضروري أن يكون الدعم المنصبّ لحماية تراث المدينة أكثر استيعاباً لما يندرج تحت هذا المسمى. فالتراث كيان نعيشه، وعلى عكس الآثار التي نجدها في المتاحف، والتي يزورها الناس لمعاينة ما لم يعد له وجود، فإن الثقافات المدنية تعيش في الأشخاص الذين يجسدونها وتقترن بالشوارع والممرات والأدراج والمخازن وما يصل بينها. ترسخ المباني المتعدّدة الأشكال للسكن والعادات والتخيّلات والتفاعلات الفرديّة والجماعيّة. ذلك هو الإطار الذي يسكنه الناس ويتفاعلون فيه مع بعضهم البعض. وبالتالي، فإن هذه المساحات تكنز العادات والممارسات التي عاشها الناس في ما مضى وتلك التي يعيشونها اليوم. وهذا الكم هو الذي يجعلها مهمة من الناحية التراثية، ويعطيها قيمتها الحيّة، ويجعل منها كياناً لأحداث تاريخيّة ولذكريات أفراد، والتي تعكس في نهاية المطاف تاريخاً مشتركاً وهويات قادرة أن تجمع بين الناس. عندما يتم انتزاع هذه الممارسات المجتمعيّة من أجل المضاربة العقارية، فإن معالم تاريخيّة يتم محوها. لذلك، إذا أردنا أن نوقف تدمير تراثنا ونستعيد ما تبقى من هذه الأحياء، يتعيّن علينا إيجاد واقع جديد لساكنيها ومستخدميها. ويتعيّن علينا أن نشركهم على اعتبارهم روّاد عملية الترميم هذه. وإلى جانب مجموعة القيود التي يتم وضعها عادة من أجل الحفاظ على التراث، كالإلتزام بنمط عمراني محدد، نحن بحاجة إلى معالجة الأطر المدنيّة والاقتصاديّة الأوسع والتي حصرت الإقتصاد المدني بالإستثمارات القائمة على المضاربة. وبالتالي، من الضروري تقديم رؤية شاملة للتحديث المدني، تستثمر في الاقتصادات الإنتاجية للأحياء وتقترح مشاريع عامة وإجراءات مدنيّة متكاملة. كما ينبغي أن تكون هناك حوافز وتعويضات مخصّصة تحديداً لسكان هذه الأحياء، تجعل من عودتهم إلى منازلهم واستعادة أعمالهم على رأس الأولويّات. لا بد من إعادة إحياء هذه المناطق حتى نضمن مساراً يخوّلنا استعادة التراث، ولا بدّ لهذا المسار من أن يدرك قيمة ثقافتنا كما عشناها وأن يقرّ أنها في حاجة دائمة إلى التجديد نحو الأفضل.