كما عانى الآباء من قبل: جيل جديد يقاوم صدمة الإنفجار

salam wa kalam website logo
trending شائع
نشر في 16 أيلول 20 بقلم لودي عيسى، مديرة التحرير في بيروت اليوم 5 دقائق للقراءة
كما عانى الآباء من قبل: جيل جديد يقاوم صدمة الإنفجار
سيبقى إسم بيروت مقترناً لفترة طويلة بانفجار المرفأ الذي شرّد ثلاث مئة ألف شخص وجرح الآلاف وأودى بحياة حوالى مئتي إنسان.

بعد مرور أسبوعين على انفجار 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم على مقربة من قلب المدينة الصغيرة، لا تزال آثار الانفجار واضحة في كل مكان نمر فيه، ونراها في أضرار السيارات التي تتوقف قربنا عند الإشارة الحمراء، وفي الزجاج المكسّر والمكدّس عشوائياً بالقرب من مستوعبات القمامة، وفي المباني التي لا تزال تخضع لإزالة الركام.

سيبقى إسم بيروت مقترناً لفترة طويلة بانفجار المرفأ الذي شرّد ثلاث مئة ألف شخص وجرح الآلاف وأودى بحياة حوالى مئتي إنسان.

بعد مرور أسبوعين على انفجار 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم على مقربة من قلب المدينة الصغيرة، لا تزال آثار الانفجار واضحة في كل مكان نمر فيه، ونراها في أضرار السيارات التي تتوقف قربنا عند الإشارة الحمراء، وفي الزجاج المكسّر والمكدّس عشوائياً بالقرب من مستوعبات القمامة، وفي المباني التي لا تزال تخضع لإزالة الركام.

في النهاية، سيتم إصلاح الأضرار المادية وسيتحوّل تعاطف العالم إلى مكان آخر. وفي أثناء ذلك، سينصرف الاهتمام عن الذين نجوا من الإنفجار ليظلّوا مسكونين بذكريات جديدة عن حرب شنّت على بيروت.

لا تختلف تداعيات الحرب المستمرة عن تلك التي عانى منها آباؤنا بين عامي 1975 و1990، عندما اندلعت حرب أهلية خاضها السياسيون عينهم الذين لا يزالون في السلطة حتى يومنا هذا.

في المرتين، إضطر الناس إلى ترك منازلهم، وأغلقوا أعمالهم التجارية، وألقوا بطموحاتهم جانباً ليحوّلوا جلّ تركيزهم نحو اجتياز يومهم الذي يعيشونه. شوّهت الحرب الأهليّة المباني التاريخيّة بالرصاص، أما الانفجار الذي وقع في 4 آب فقد أتى عليها بالكامل.

يقول مصوّر الفيديو الذي يعمل معي في بيروت، كارم منذر: "أخبرني الذين عاشوا الحرب الأهليّة أنهم لم يروا مثيلاً لما حدث في انفجار الرابع من آب. سنوات من العمل وكل شيء بناه الناس، تمّ تدميره في بضع ثوان".

منذ الحرب الأهلية، لم تُحاسب الطبقة السياسيّة الحاكمة على جرائمها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جريمة اليوم - وهي أكبر انفجار غير عسكري في التاريخ الحديث - فقد لا تتحقق المساءلة أبداً.

بعد أقل من ساعة على الإنفجار، كان كارم يجوب الشوارع ليوثّق ما خلّفه الإنفجار. ولم يمنح نفسه سوى بعض الوقت ليطمئن على سلامة أحبائه قبل أن يغوص في العمل. على الأرض، عاش حالة الخراب والفوضى وكأنها مشاهد من فيلم عن الحرب الأهليّة.

"لا أفهم. لم يبقَ شيء". إرتجف صوته وهو يقول هذه الكلمات عبر الهاتف في تلك الليلة، وكان دوّي صفارات الإنذار يسمع في الخلفيّة وهو يسير بين الأنقاض. في ذلك الوقت، كان يصوّر وكأنه آلة. الآن وقد استوعب ما جرى، أصبح باستطاعته تذكر أدق التفاصيل: رائحة الدم، الزجاج المطحون تحت خطواته، صراخ الجرحى وهم يبحثون عن مستشفيات لم يعرفوا أن الانفجار أتى عليها هي أيضاً.

ها هو جيل جديد من الشباب اللبناني تتحطّم نظرته للدنيا أمام مشهد الإنفجار. وعلى الرغم من غياب الإستقرار الإقتصادي والسياسي الذي نعيشه في البلد، استهزأ الكثيرون منا بمخاوف أهله من عودة الحرب الطائفيّة. بدا لنا العالم وكأنه مكان آمن نسبياً، لكن الدمار الذي لحق بمدينتنا محا في لحظة تلك النظرة الورديّة.

تقول لين الشيخ موسى، وهي صحافية أيضاً في بيروت اليوم التي تحطمت نوافذها بالكامل بسبب موجة الإنفجار: "ظننت لحظة وقوع الإنفجار أن بيروت تتعرّض لقصف شديد. تذكرت على الفور انفجار عام 2005 الذي أودى بحياة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وحرب عام 2006 التي تلت ذلك. إعتقدت والدتي، شأنها شأن معظم الناس، أن مقاتلة إسرائيلية ضربت معلماً قريباً. أما خالاتي، فقد أمسكن بلا وعي بأطفالهن الذين انهمروا بالبكاء، وتجمّعن عند مداخل البيوت". قصص كثيرة كهذه سمعناها في أرجاء البلاد نظراً إلى مدى قوّة الانفجار وصوته. تضيف لين: "إعتقدت أمي وخالي أنها بداية حرب. أما أنا، فلم يكن باستطاعتي سوى أن أبكي وأحاول تهدئة جدتي حتى نستخبر عما حصل بالفعل".

ربما فهم الحرب وقبولها أسهل مما نحن فيه اليوم. سنوات من الوعود التي لم يتم الوفاء بها، ومن الفساد السياسي، والإهمال الإجرامي لم تؤد سوى إلى تدمير مدينتنا وتحطيم أي أمل متبقٍ لدينا.

تمّ تخزين نيترات الأمونيوم الخطير في مرفأ بيروت، بالقرب من مئات الآلاف من المساكن والى جانب إهراءات الحبوب الرئيسيّة في المدينة، ولمدة ست سنوات قبل وقوع الإنفجار. كان السياسيّون على علم بذلك، ولم يحرّكوا ساكناً حتى جاء الإنفجار ليحطم حقنا في العيش بسلام.

على مدى السنوات الست الماضية، وبدون علمٍ منا، عقدنا اجتماعات، واحتفلنا بأعياد الميلاد، وذهبنا إلى الجامعة في أماكن تقع ضمن الدائرة التي فجّرتها المواد الكيميائية القاتلة الموجودة في المرفأ. هذه الأماكن، وحياتنا معها، أصبحت الآن مجرّد خراب. نرى أنفسنا في الأشخاص الذين فقدوا حياتهم أو أحباء لهم أو منازلهم. كان من الممكن أن يكون أيّ واحد منا. هو شعور نتشاركه مع أهالينا الذين نشأوا في زمن الحرب.

قبل الانفجار، كان اللبنانيون يعانون من أجل تدبير أمورهم المعيشيّة جراء الإنهيار الاقتصادي السحيق الذي لم تشهد البلاد مثيلاً له على الإطلاق. وقد تعمّقت اليوم الصعوبات الاقتصادية الصعبة التي لم يعرف لبنان مثيلاً لها حتى في حقبة الحرب الأهلية.

تقول لين: "كنا نتمسّك بشيء من الأمل الى أن أتى الإنفجار على خمس المدينة. إعتقدت أنني لم أفقد الأمل في البقاء هنا.  لكن لا يمكنني أن أتصوّر نفسي وأنا على أهبّة الإستعداد تحسّباً لحدوث انفجار آخر في السنوات المقبلة".

تابعت جنازة الياس الخوري البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، والذي توفى بعد أسبوعين من الإنفجار متأثراً بجروحه. وبينما كنت أشاهد أصدقاءه في المدرسة يحملون نعشه الأبيض، إعتراني شعور ساحق بالعجز، ولم أستطع السيطرة على أفكاري. أتسأل، ما شكل تجارب الحياة التي فاتته؟ ومن كان ليصبح؟ وكيف ستكون من بعده حياة الأحبّة المفجوعين الذين تركهم ورحل؟.

أي شيء قد يحدث في أي وقت. هذه الفكرة لا تفارق أذهان آبائنا بعد كل ما مرّ بهم على مدى أربعين عاماً من تفجيرات واغتيالات وحرب أهليّة. واليوم، جيل جديد يتشارك الصدمة الجماعيّة عينها التي تشاركها الجيل الذي سبق.

اليوم، تجتاح الكوابيس نومنا، ولدينا هلع من النوافذ، ونجزع عندما تفاجئنا الأصوات العالية.
A+
A-
share
أيلول 2020
أنظر أيضا
16 أيلول 2020 بقلم تانيا بوسكي، اخصائية في علم النفس السريري واستاذة مساعدة في الجامعة الأمريكية في بيروت
16 أيلول 2020
بقلم تانيا بوسكي، اخصائية في علم النفس السريري واستاذة مساعدة في الجامعة الأمريكية في بيروت
16 أيلول 2020 بقلم إيفلين حتي، رئيس قسم طب الطوارئ في المركز الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت
16 أيلول 2020
بقلم إيفلين حتي، رئيس قسم طب الطوارئ في المركز الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت
أحدث فيديو
الأكثر مشاهدة هذا الشهر
10 كانون الأول 2024 بقلم زهراء عياد، صحافية
10 كانون الأول 2024
بقلم زهراء عياد، صحافية
07 كانون الأول 2024 بقلم نايا فجلون، صحافية
07 كانون الأول 2024
بقلم نايا فجلون، صحافية
تحميل المزيد